العمل المسلح الكردي في العراق
Kurdish armed action in Iraq
 

بدأ العمل الكردي المسلح في العراق في فترة سبقت قيام الدولة العراقية الموحدة أوائل العشرينيات من القرن الماضي، فحينما عقدت بريطانيا مؤتمرا في القاهرة عام 1921 لبحث شؤون الشرق الأوسط وطرحت فيه قضية العراق ورؤيتها الخاصة بتوحيد ولاياته الثلاث الموصل والبصرة وبغداد وتنصيب فيصل بن الحسين ملكا سارع الكرد برفض هذه الأفكار وأعلنوا أنهم سيقاومون ما سيتمخض عنه المؤتمر من نتائج حتى وإن جاءت في ثوب استفتاء على اختيار فيصل ملكا، ومن ثم قرروا حمل السلاح والبدء في حركات مسلحةكانت تشتد حينا وتخبو حينا تبعا لظروف داخلية في صفوف الحركة الكردية نفسها ووفقا كذلك لظروف خارجية تتعلق بالبيئة المحلية والإقليمية المؤثرة.
"ترافق قيام الدولة العراقية الحديثة أوائل عشرينيات القرن الماضي مع حركات الكرد المسلحة لنيل استقلالهم أو لتحقيق الحد الذي يرضيهم من حكم ذاتي موسع "

حركة محمود الحفيد البرزنجي
كان الشيخ محمود الحفيد البرزنجي الذي ينتمي إلى عائلة كردية شهيرة أول قائد كردي يرفع لواء العمل المسلح بهدف الحصول على مكاسب قومية، تبدأ بسقف طموح شعاره الاستقلال، ولا تتراجع عن أقل من حكم ذاتي يحفظ للكرد هويتهم وخصوصيتهم.

 أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918) حاولت الدولة العثمانية استمالة الشيخ البرزنجي للوقوف معها ضد بريطانيا، إلا أنه اختار العمل إلى جانب البريطانيين.  ولم تضيع بريطانيا وقتا فاتصلت به وأغرته بإمكانية تحقيق حلم الدولة الكردية إذا ما وقف بجانبها وخرجت من الحرب منتصرة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك وأفهمته أنه سيترتب على المادة 64 من معاهدة سيفر إنشاء دولة كردية.

 وكانت المكافأة البريطانية للبرزنجي هي أن سمح له الإنجليز برئاسة حكومة كردية في لواء السليمانية لكنهم فرضوا عليه مستشارين بريطانيين لا يبرم أمرا دون الرجوع إليهما.  ولم يمض وقت طويل حتى تنكرت بريطانيا لوعودها وتنكرت كذلك لمعاهدة سيفر مما جعل البرزنجي يعلن الحرب عليها وعلى الحكومة المركزية في بغداد بعد إنشائها. وشهدت تحركاته انتصارات وهزائم مختلفة ونفاه البربطانيون مرتين إلى الهند وإيران ثم نفوه مرة ثالثة إلى جنوب العراق.

 وتعتبر حركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي أولى الحركات المسلحة المنظمة للكرد في العراق غداة تأسيس دولته الحديثة، وقد استمرت تحركاته على فترات متقطعة نحو اثني عشر عاما حتى أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، وسعى إلى تأسيس دولة كردية حينما أعلن نفسه ملكا على السليمانية لكن مساعيه لم تتمكن من مواجهة الضغط العسكري للاحتلال البريطاني وضغط الحكومة العراقية. 

"ما إن خمدت حركة البرزنجي في نهاية عقد العشرينيات حتى اندلعت حركة البارزاني التي استمرت تقوى حينا وتضعف حينا حتى تاريخ الغزو الأميركي للعراق"
 
 

حركة أحمد ومصطفى البارزاني:

في ذروة حركة الشيخ محمود الحفيد اندلعت في منطقة بارزان  بشمال العراق عمليات عسكرية كردية مسلحة قادتها عائلة البرزاني وتحديدا الأخوين أحمد ومصطفى البارزاني.

 بدأ أحمد البارزاني نشاطه بتحرك سياسي عام 1931 تمثل في تقديمه طلبا لعصبة الأمم يتضمن السماح للكرد بإقامة حكم ذاتي في مناطقهم وبدأ في تنظيم مجموعات كردية مسلحة استعدادا لما ستسفر عنه الأمور من تطورات.  

لكن بريطانيا قررت مواجهته بالقوة فضربت طائراتها الحربية أماكن تجمعات المسلحين الكرد في منطقة بارزان، واستطاعت فرض نوع من السيطرة على تلك المنطقة بل إنها ألقت القبض على الشيخ أحمد البارزاني ووضعته رهن الإقامة الجبرية في لواء السليمانية، وظن المراقبون آنذاك أن الأوضاع في طريقها إلى الهدوء غير أن قيادة الحركة المسلحة آلت إلى أخيه الملا مصطفى فعاد النشاط يدب في صفوف المسلحين الكرد من جديد. 

وفي عام 1943 تمكن أحمد من الفرار من السليمانية وانضم إلى أخيه الملا مصطفى وواصلا عملياتهما المسلحة، ثم أعلنا أنهما على استعداد لوقف القتال إذا ما تحققت للكرد الشروط التالية:

  • تشكيل ولاية كردية تضم كركوك وأربيل والسليمانية وزاخو ودهوك والعمادية وسنجار وخانقين ومندلي.
  • اعتبار اللغة الكردية لغة رسمية في تلك الولاية.
  • تعيين نائب وزير كردي في جميع الوزارات العراقية.

ولم تكن الظروف مهيأة آنذاك لقبول هذه الشروط ففشلت المساعي السلمية ليستمر العمل الكردي المسلح.

 

العمل المسلح بعد إعلان الجمهورية العراقية:

لم يتوقف العمل المسلح الكردي حتى مع إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية عام 1958، ففي تلك الأثناء حاول عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء التوصل إلى اتفاق سياسي مع الكرد ينهي من خلاله حركتهم المسلحة لكنه اصطدم بسقف مطالبهم المرتفع الذي تمسك به الملا مصطفى البارزاني مما أدى إلى استمرار العمليات المسلحة طوال الفترة من 1958 حتى 1963. 

وقد تغيرت ملامح العمل المسلح الكردي قليلا بعد الإطاحة بعبد الكريم قاسم وتولي عبد السلام عارف الحكم، حيث حدث انشقاق سياسي في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه الملا مصطفى البارزاني، وكان أبرز المنشقين جلال الطالباني وأحمد إبراهيم اللذين اتفقا بعد ذلك في عام 1966 مع الرئيس عبد الرحمن عارف على المشاركة مع الجيش العراقي في قتال قوات الملا مصطفى مما أجبر الأخير على الهرب إلى طهران عام 1968 لإقامة تحالف كردي إيراني ليستطيع مواصلة العمل المسلح.   

أثناء تولي حزب البعث:
ومع تولي حزب البعث السلطة في العراق عام 1968 كان الموقف العسكري للملا مصطفى البارزاني يتزايد قوة بسبب الدعم العسكري الذي كان يتدفق عليه من إيران، وقد واجهت الحكومة العراقية هذا التطور بتوقيع معاهدة مع الملا مصطفى عرفت ببيان 11 آذار عام 1970 وفيها اعترفت الحكومة العراقية بالحقوق القومية للكرد مع تقديم ضمانات لهم بالمشاركة في الحكومة العراقية واستعمال اللغة الكردية في المؤسسات التعليمية، وتم الاتفاق كذلك على تأجيل البت في قضية كركوك حتى تنتهي إجراءات الإحصاء السكاني لمعرفة نسبة القوميات المختلفة في المدينة.

 وكان مقررا إجراء مثل هذا الإحصاء عام 1977 لكن الاتفاق بأكمله بين الحكومة العراقية والكرد انهار بعد أن اعلن الملا مصطفى البارزانيفي مطلع عام 1974 عن "حق الكرد في نفط كركوك" الأمر الذي اعتبرته بغداد بمثابة إعلان حرب، وأعلنت من طرف واحد عن عزمها تطبيق بيان 11 آذار بمنح الكرد حكما ذاتيا، وهو ما رفضه الكرد معتبرين أنه أقل مما تم التوصل إليه من قبل في اتفاقية عام 1970،  وإزاء هذه التطورات عادت عجلة الصراع المسلح لتدور من جديد.

 في تلك الأثناء دخلت أطراف خارجية على الخط تمثلت في إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، وكلهم أرادوا دعم العمل المسلح الكردي لإحداث عراقيل أمام الحكومة العراقية تمنعها من تقديم الدعم للجبهة السورية التي كانت في حالة حرب مع إسرائيل، وإزاء هذا الأمر سعت الحكومة العراقية إلى أن تكسر هذا التحالف، وقد تم ذلك بالفعل بتوقيع اتفاقية الجزائر عام 1975 بين إيران والعراق.

 قبل العراق في هذه الاتفاقية بفكرة اقتسام مياه شط العرب عند خط التالوك مع ايران، وكان من شروط وتداعيات ذلك أن توقفت إيران عن تقديم الدعم المالي والعسكري للكرد مما أدى إلى انهيار الحركة الكردية المسلحة، فهرب الملا مصطفى إلى إيران ثم إلى الولايات المتحدة ليموت هناك عام 1979متأثرا بمرض السرطان.

"ابتداء من العام 1992 سحبت الحكومة العراقية موظفيها من محافظات شمال العراق الكردية، التي اصبحت عمليا خارج سيطرتها، فتولى الكرد ادارة شؤونهم بمساعدة اقليمية ودولية واسسوا لتجربة اشبه بالدولة المستقلة"

  الجبهة الكردية في حربي الخليج الأولى والثانية:

 في عقد التسعينيات وقعت عمليات عسكرية كردية عقب وقف اطلاق النار في حرب الخليج الثانية التي عرفت اميركيا باسم عاصفة الصحراء، وقد استطاع الجيش العراقي إخماد هذه العمليات ودخول المدن الشمالية التي ظلت لايام بيد المقاتلين الكرد، مما اضطر مئات الآلاف من الكرد إلى النزوح اتجاه الحدود الإيرانية والتركية، وهنا تدخلت الولايات المتحدة وفرضت حظرا للطيران فوق المناطق الكردية في الشمال والشيعية في الجنوب وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 688 الصادر في 5 أبريل 1991، وامتدت منطقة الحظر شمال خط العرض 36 وجنوب خط العرض 32.
 
وابتداء من العام 1992 سحبت الحكومة العراقية موظفيها من محافظات شمال العراق الكردية، التي اصبحت عمليا خارج سيطرتها، فتولى الكرد ادارة شؤونهم بمساعدة اقليمية ودولية واسسوا لتجربة اشبه بالدولة المستقلة.

وفي أواخر عام 1996 وسعت الولايات المتحدة منطقة الحظر الشمالية إلى خط 33 فكانت أقرب إلى حدود العاصمة بغداد، وذلك بعد بضعة شهور من دخول وحدات من الجيش العراقي محافظة أربيل في اغسطس/ آب من ذلك العام في عملية استمرت يوما واحدا فقط. ونتيجة لمنطقة حظر الطيران هذه استمر الكرد متمتعين بالحماية الدولية وتراجعت عملياتهم المسلحة ضد الحكومة المركزية في بغداد حتى غزو العراق عام 2003.

 وقت الغزو الأميركي:

لم تشارك قوات البشمركة الكردية في الايام الاولى للحرب الأميركية على العراق والتي بدأت في 20 مارس/آذار عام 2003، ولم تكن الجبهة الشمالية العراقية في مجملها ساحة للقتال كما كان الحال في الجبهة الجنوبية خاصة بعد أن رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأميركية بالعبور إلى العراق من أراضيه، لكن المقاتلين الكرد قاموا برفقة وحدات من القوات الاميركية بالضغط العسكري على القوات العراقية في مدينة الموصل الشمالية في اواخر ايام الحرب عشية احتلال بغداد كما انهم قدموا قبل ذلك دعما لوجستيا للقوات الأميركية لاسيما بعض طواقم القوات الخاصة الأميركية وعناصر الاستخبارات التي تسللت إلى تلك المنطقة لتمهد البيئة وتساعد في عملية غزو العراق. 

 بعد احتلال بغداد وسقوط نظام الحكم وحل الجيش العراقي يمكن القول إنه بات مؤكدا أن الكرد قد تخلصوا من وجود تهديد عسكري تنظمه دولة مركزية استمر مرافقا لمسيرة عملهم المسلح منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة مع الغزو البريطاني حتى انهيارها مع الغزو الأميركي، لكن في الوقت نفسه يمكن القول أيضا إن توقف العمل المسلح الذي تشهده المناطق الكردية حاليا لا يمكن الجزم بأنه سيكون أبديا وذلك لسبب بسيط هو أو أن حلم الدولة الكردية المستقلة الموحدة لم يتحقق لهم بعد.