"رياح السموم والأنفال".. المأساة جزء من تاريخ الكورد

2011-04-13

المأساة.. جزء من تاريخ الكرد, والكوارث الكبرى تحتل جزءا آخر من تاريخ هذا الشعب الذي طالما عاش تحت وطأة حكم المعتدي والاجانب الذين لم يرحموا ولم يتوانوا يوما ما في قتله ونهبه وايجاد السبل التي تقتلع جذوره.. لكن بصلابة جباله وقسوة طبيعته استطاع الكرد ان يقاوموا هذه الريح الصفراء ويبقوا كشوكة في عيون محتليهم..

حيث لم يساندهم سوى العزيمة الشماء والقدرة اللامتناهية على تواصل النضال والاستمرار في ثورة عمرها اكثر من نصف قرن.. مع هذا لم يبخل الشعب الكردي في الفداء والتضحية مما أثار الدهشة والحيرة لدى اعدائه الذين استخدموا ضده أرقى أنواع التكنولوجيا لابادته, وأشرس الحروب, من بينها الحروب النفسية.. هذا وناهيك عن حملات التطهير العرقي منذ عقود من الزمن والابادة الجماعية المتمثلة في(الجينوسايد) والأسلحة التي حرمت دوليا.. مع هذا وذاك بقي الشعب الكردي في أرضه وبدأ اليوم يعمر ما دمرته تلك الحملات والحروب اللاإنسانية..

هذا الكتاب الذي نحن بصدد قراءته اليوم لمؤلفه او بالاحرى فلنقل لمعده السيد عبد الله كريم محمود, كتاب وثائقي تاريخي يدون حقبة سوداء ومأساوية من عمر هذا الشعب, يبدأ الكتاب بتعريف شامل لعمليات الأنفال والغاية من هذه الحملات.. ثم يأتي الكاتب على ذكر مراحل الأنفال ومواقعها منذ العام 1963 والمجازر البشرية والاعدامات الجماعية, كما ذكر الكتاب حملات الترحيل الجارية بحق الكرد الفيليين والبارزانيين وتدمير القرى والمدن والقصبات الكردية منذ بدء الثورة الكردية المسلحة.. وهكذا خلال سرد تاريخي سريع وصل الى قمة المآسي الكردية المتمثلة في قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيمياوية اضافة الى القرى والقصبات الأخرى التي تعرضت الى القصف باالغازات الكيمياوية, استشهد الكاتب في موضوعاته بوثائق وخرائط وعدد الألوية والمفارز المشاركة في تلك العمليات مما يثبت تاريخيا هول الجريمة من حملات الأنفال الأولى والى نهايتها-الثامنة-، حيث يصور الكاتب تلك الحملات بلغة قصصية مليئة بالفواجع ومدعمة بالأرقام والاحصاءات والوثائق بحيث يجعل من القارئ ان يتابع تلك الأحداث بشغف.. لان لغة السّرد دامغة وتجعل القارئ يتصور بأن كردستان في تلك الحقبة كانت كتلة من النار واللهيب ومر الكرد فيها بأخطر مراحلهم التاريخية..

يبدأ الكاتب في الصفحة 25 بعرض جدول للقرى وعدد الضحايا التي شملتهم حملة الأنفال الثامنة في منطقة بهدينان وعددهم 13 ألف شخص وتدمير 775 قرية مع ارقام واحصاءات قديمة وحديثة لتلك المناطق. خصص الكاتب فصلا للحالة التي يمر بها بقايا المؤنفلين.. ثم يأتي على فاجعة حلبجة في 16/3/1988 ويبدأ بعرض تاريخي لتلك المدينة المفجوعة وما جاورها من هورامان وشهرزور ويأخذ من اقوال من رأى الفاجعة هول تلك الكارثة اللاإنسانية معتمدا على تلك الوثائق التي استولي عليها بعد الانتفاضة واثنائها.

ويدخل الكاتب في تفاصيل تلك العمليات والغاية الاستراتيجية البعيدة المدى منها وانواع الغازات المستخدمة في حينها وبقايا تأثيراتها الى اليوم..

هذا الكتاب يسلط الضوء على صناعة الاسلحة الكيمياوية في العراق والانواع التي انتجتها مصانع الاسلحة العراقية والدراسة التي اجريت فيما بعد على المصابين بتلك الاسلحة.. وظهرت في الكتاب وثيقة بإسم الخبراء الاجانب الذين شاركوا العراق في تصنيع تلك الاسلحة الفتاكة, وفي المقابل ذكر القصص التي حدثت اثناء الفاجعة الكيمياوية لحلبجة وعرض صورا دامغة تثبت حقيقة تلك المأساة والحالة الهستيرية التي احدثتها هذه الغازات الكيمياوية وتلك

الغازات التي كان لكل واحد منها تأثير بحيث يختلف عن تأثير غاز آخر وتلك الحقائق مأخوذة من أقوال الشهود الذين نجوا بأعجوبة من تلك الكارثة التي اصبحت مفتاحا لفضح تلك الجرائم المرتكبة بحق الكرد. وذكر في الكتاب اقوال الصحف والوكالات العالمية في تلك الفترة عن هذه الكارثة.

بعد ان يكشف الكتاب فاجعة حلبجة ومآسيها يعود الكاتب في الصفحة 90 الى المفارز التي بقيت في كردستان اثناء حملات الأنفال وبعض القادة من بيشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني منهم الشهيد آزاد هورامي والشهيد محمود مامة عةزة، حيث كانت تلك الحقبة تاريخية وبطولية في تاريخ الحركة الكردية بأكملها, وهناك مقتطفات وقصص واقعية يقشعر لها البدن, استخدمها الكاتب من مقابلات صحيفة مع من عاشوا تلك الفترة المظلمة ودونوا أحداثها

اما بالصور او في مذكراتهم اليومية.. ورد في الكتاب قصص الشهداء الذين ضحوا بأغلى ما عندهم ومنهم الشهيد حسن كويستاني والشهيد حمه رش وغيرهما من الشهداء الأبطال. هذا الفصل المختص بالمفارز التي بقيت تناضل وتحارب العدو فيه الكثير مما يثبت صلابته وعزم الكرد على مقاومة الغزاة والطامعين في حين كان العدو وجيشه يعدان من اقوى انظمة العالم المدعمة من قبل الشرق والغرب وجيشا من افتك جيوش العصر الحديث ولكن هؤلاء الرجال ضربوا بتلك الحقائق عرض الحائط وحاربوا بسلاح افتك واقوى الا وهو سلاح الايمان والعقيدة وهذا لا يوصف بالكتابة وانما بالقراءة المتأنية لهذا الفصل يجعل من قارئه ان يتيقن بأن الكرد لهم عزيمة لا تلين وخير شاهد على ما اقول هو هذا الفصل الذي لم أقرأه في كتب الثورات والحركات للشعوب الاخرى, هذه المقاومة لم تكن أقل شأنا من مقاومة الفيتناميين واهل كوبا وشيكاغو ولكن مع الأسف لم تدون تلك الاحداث بالشكل المطلوب. واصبحت الحقائق مدونة فقط في صدور وذاكرة من عايش تلك الحقبة, فأسطورة الشهيد ريباز ورفاقه البيشمركة تكمن في طياتها مئات القصص البطولية التي رفع عنها الستار الكاتب عبدالله كريم محمود من خلال البحث والمتابعة المتأنية عن الحقائق فقدم خدمة للتاريخ الكردي بكشف النقاب عن تلك البطولات الفذة.. وفي سرد حقائق تلك الفترة ايضا سلط الاضواء على جوانب مهمة من حياة الشهيد غريب هلدني الاسطورة الاخرى من اساطير الاتحاد الوطني الكردستاني وملاحمه البطولية التي يقف التاريخ حائرا امام ما قدمه هذا البطل ورفاقه..

لم اتصور من قبل بأن الطاقة البشرية بمقدورها ان تقدم كل هذه العجائب والفداء في سبيل انجاز الواجب الوطني.. ولكن في متون هذا الكتاب(رياح السموم والأنفال) يحصل المرء على عظمة الانسان الكردي وكبريائه وتضحياته ودناءة اعدائه وجبروتهم على الشعب الآمن والنساء والأطفال, فهذا الكتاب شبيه بفيلم تاريخي حقيقي يكشف النقاب عن مقاومة شعب مظلوم لأشرس أنواع الشر وألد أعداء الانسانية.. فمن لا يقرأ هذا الكتاب لا يصل الى الحقيقة التي اريد البوح بها.

لا يبقي الكتاب أدنى شك لاثبات الحقائق التي وردت في متنه وذلك من خلال الوثائق والافلام والصور التي حصلت عليها قوات البيشمركة اثناء الانتفاضة الخالدة منها الكاسيتات التي سجلت اثناء اجتماعات قادة حزب البعث واعترافات علي حسن المجيد بإستخدامهم للأسلحة الكيمياوية وحملات الأنفال بالتاريخ والصوت والصورة.. حيث يتلمس القارئ من تلك التهديدات ما كان ينتظر الشعب الكردي من قبل جلاوزة وسفاحي العصر الحديث..

حصل الكاتب على العديد من صور الشهداء واسماء العديد من الضحايا، حيث دونها كوثيقة تاريخية لا تقبل الشك والريبة.

اختتم هذا الجزء من كتابه بفصل عن الأنفال ومأساة الكرد باللغة الانجليزية كمصدر مهم لمتابعي وباحثي الأنفال ممن لا يجيدون اللغتين الكردية والعربية.. خصص نصف كتابه هذا للوثائق والكتيبات الرسمية لرؤوس النظام واسماء الشركات الاجنبية التي ساعدت النظام, فالوثائق تنطق وحدها كدليل

دامغ على صحة ما قيل في متن الكتاب. هذا الكتاب جدير بالقراءة للباحث والقارئ، وهو تدوين جزء من تاريخ الكرد بشكل وثقائقي, حيث يظهر من خلال ما جاء فيه بأن المعد عبدالله كريم محمود جمع من خلال البحث وتقصي الحقائق وبالتالي انتج شيئا مليئا بالحقائق والوثائق واغنى به المكتبات الكردية الفقيرة.. أرجو التوفيق والنجاح للكاتب عبدالله كريم محمود ونحن بإنتظار نتاجاته الاخرى والمضي في سبيل اظهار كلمة الحق وكشف تلك الحقائق التي بقيت كامنة في الصدور.

اسم الكتاب: رياح السموم والأنفال

المؤلف- عبدالله كريم محمود