عائلة البارزاني والعمل المسلح الكردي
 

حركة البارزاني الأولى:
في الوقت الذي خبا فيه وهج العمل الكردي المسلح نهاية العشرينيات بضعف الحركة التي قادها الشيخ محمود حفيد البرزنجي، نشطت في منطقة بارزان عمليات مسلحة قادتها عائلة البارزاني. تنتمي عائلة البارزاني إلى مؤسسها الشيخ محمد أحد شيوخ الطريقة النقشبندية، أما اسم البارزاني فهو نسبة إلى قرية بارزان التي ولد وعاش فيها الشيخ محمد.
من الأسماء المشهورة في هذه العائلة الشيخ عبد السلام البارزاني الذي رفض إرسال أتباعه إلى الجيش العثماني ليقاتلوا إلى جواره في الحرب العالمية الأولى، وامتنع كذلك عن دفع الضرائب للدولة العثمانية بل وتمرد عليها في مدينة عقرة فوجهت إليه الدولة العثمانية قوة عسكرية أسرته ثم أعدمته بعد محاكمته في الموصل عام 1916.
تولى قيادة الحركة الكردية في منطقة بارزان من بعده أخوه الشيخ أحمد الذي تعاون مع القوات البريطانية، فمد لها يد العون وقبل منها ما عرضته عليه من مساعدات مادية ومعنوية، واستطاع بذلك بسط نفوذه على المنطقة الشرقية من كردستان.

"منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الاحتلال الأميركي للعراق تصدت عائلة البارزاني لقيادة العمل المسلح الكردي"
 

وقع أول صدام جدي بين العائلة البارزانية والحكومة العراقية حينما حاولت الأخيرة نشر مخافر للشرطة في منطقة بارزان فمنعها الشيخ أحمد، واندلعت المصادمات الدامية بين أتباعه وقوات الشرطة والجيش في نوفمبر/ تشرين الثاني 1932. في هذه الأثناء أعادت بريطانيا حساباتها وغيرت مواقفها فوقفت إلى جانب الحكومة العراقية في حربها ضد الشيخ أحمد، بل إنها شاركت ضد تمرده بطائراتها فقصفت القرى في منطقة بارزان وقتلت أكثر من ألف وثلاثمائة.
استطاعت القوات الحكومية المدعومة من بريطانيا هزيمة قوات الشيخ أحمد وأجبرته على الهرب إلى الحدود التركية وسلم نفسه إلى قوات حرس الحدود التركية هناك، وانتهت بذلك ولو من الناحية الرسمية الحركة العسكرية التي قادها الشيخ أحمد البرزاني في يوليو/ تموز 1932، وإن كانت قد استمرت بعد ذلك لمدة عام تقوم بعمليات أو مناوشات عسكرية بسيطة هنا وهناك قادها شقيقا الشيخ أحمد، الملا مصطفى والشيخ صديق.
في العام التالي أي سنة 1933 أصدرت الحكومة العراقية عفوا عن أفراد عائلة البارزاني ومائتين من أعوانه فعادوا إلى العراق، وأملت تلك الحكومة أن تهدأ الأوضاع في منطقة كردستان، وهو الأمر الذي لم يحدث. استمرت الحركة الكردية المسلحة فوجهت الحكومة المركزية حملة أخرى كبيرة إلى مناطق الاضطرابات في فبراير/ شباط 1936، لم يستطع أفراد العائلة البارزانية مواجهتها فآثروا اللجوء الى الجبال.

 في تلك الأثناء وقع انقلاب عسكري في بغداد بقيادة الفريق بكر صدقي، فقبل الملا مصطفى البارزاني الهارب في الجبال عرض الحكومة بالإقامة الجبرية بلواء السليمانية بعيدا عن منطقته بارزان وظل بها، وظلت الحركة العسكرية الكردية كامنة منذ عام 1936 حتى 1943 حينما نشبت حركة مسلحة ثانية للبارزاني.
 
حركة البارزاني الثانية:
استغل الملا مصطفى البارزاني ظروف الحرب العالمية الثانية وهرب من إقامته الجبرية في السليمانية ليعود إلى منطقة بارازان، وقام بحركة مسلحة قطع فيها المواصلات ورفض مطالب الحكومة العراقية التي دعته إلى وقف حركته، ولم تيأس الحكومة العراقية بل عمدت إلى تعيين كردي هو ماجد مصطفى في منصب وزير دولة بالحكومة وكلفته بالتفاوض مع البارزاني، فاشترط عليه الملا مصطفى السماح لأخيه الشيخ أحمد بالعودة إلى منطقة بارزان وتزويد المنطقة بالمواد الغذائية والملابس وتحسين الإدارة المدنية وتعيين سبعة ضباط ارتباط من الكرد العاملين بالجيش العراقي لإدارة منطقة بارزان بصورة مؤقتة تحت إشراف وزير الدولة ماجد مصطفى وإدارته، كل ذلك مقابل وقف الحركة المسلحة وتسليم الملا مصطفى نفسه للجيش العراقي والذي قد تم بالفعل في يناير/ كانون الثاني 1944.

"حركتا عائلة البارزاني الأولى والثانية مثلت أهم محطتين للعمل المسلح الكردي خلال العقود السبعة الماضية"
 

الإدارة الكردية التي تكونت رغم أنها من الناحية النظرية كانت تعمل تحت إشراف الوزير ماجد مصطفى فإنها من الناحية الفعلية كانت تعمل لصالح الملا مصطفى البارزاني، بل إن ضباط الارتباط السبعة بعد إحالتهم للتقاعد عملوا في خدمة الملا مصطفى الأمر الذي زاد من نفوذه وحول حركته إلى حركة قومية كردية ضد الحكومة المركزية في بغداد بعد أن كان يغلب عليها الطابع الإقطاعي. ازداد إذن نفوذ الملا مصطفى وقدم الضباط الكرد الذين التحقوا به خدمات عسكرية كبيرة، ونقلوا للكرد فنون القتال وأسسوا مراكز عسكرية محصنة تشرف على الطرق الرئيسية المؤدية إلى منطقة بارزان مما تسبب في فقدان الحكومة العراقية سيطرتها على تلك المنطقة بل وفقدت كذلك هيبتها هناك.
هنا ونظرا لقوة الكرد الجديدة التي بلغت 2500 مسلح أعادت بريطانيا مرة أخرى التفكير في موقفها من الملا مصطفى، فقدمت له العون المادي والعسكري فقبلها منها وأقام كذلك علاقات مع الجيش الروسي وقبل منه هو أيضا مساعدات عسكرية ومالية. عام 1945 قررت الحكومة المركزية في بغداد القضاء على حركة الملا مصطفى العسكرية فحشدت قواتها، ووقع الصدام بين الطرفين في منطقة بادليان واستمر القتال طوال شهري أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول، وانتهت مطلع أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام بحسم النتيجة لصالح قوات الحكومة التي استطاعت احتلال بعض المناطق البارزانية بل إنها دخلت قرية بارزان وطاردت المسلحين الكرد إلى كاني رش القريبة من الحدود التركية.

عاش الملا مصطفى بعدها لمدة عام ونصف العام في أذربيجان التي كانت تابعة آنذاك للروس، أما أخوه الشيخ أحمد فقد آثر البقاء في ظل الحكومة الكردية التي أسسها كذلك الروس في صاوجبلاق الإيرانية برئاسة جعفر بيشواري. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وانسحاب الروس من إيران وانهيار حكومة بيشواري ومن ثم جمهورية مهاباد الكردية، اشتبك البارزانيون مع القوات الإيرانية التي تعقبتهم حتى الحدود العراقية، وهناك وجدت القوات البارزانية نفسها وجها لوجه أمام القوات العراقية فاستسلم القسم الأكبر من ضباطها في أبريل/ نيسان 1947 وبينهم الشيخ أحمد البارزاني وأربعة من كبار ضباطه، فحاكمتهم حكومة بغداد وأعدمتهم جميعا.
 أما الملا مصطفى البازاني فقد رفض الاستسلام واستطاع الهرب عبر الحدود العراقية ووصل إلى منطقتي رواندوز وزيبار وهناك أعاد عصيانه العسكري، فبدأت القوات العراقية تلاحقه هو وأتباعه وأعلنت الأحكام العرفية في تلك المناطق، واستطاعت تلك القوات أن تباغته في منطقة هوبا عند السفوج الشمالية لجبل بوتين، لكن هذه المرة أيضا استطاع الملا مصطفى البارزاني الهرب إلى تركيا ومنها دخل إلى إيران.
ومن إيران أعلن في الخامس عشر من أغسطس/ آب 1945 عن تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي عرف فيما بعد باسم "البارتي" ووثق روابطه بالحزب الشيوعي وبالتيارات الماركسية بالاتحاد السوفياتي التي وصل إليها قدما من إيران بعد انهيار جمهورية مهاباد، وعن طريق العناصر الشيوعية العراقية أسس البارتي فروعا له بالمنطقة الكردية العراقية ونشط في توزيع المنشورات، لكن السلطات العراقية اكتشفت أمره واعتقلت معظم أعضاء لجنته المركزية، فتفرق أعضاؤه.
وبالتالي خيم على الحركة الكردية الركود طوال الفترة الممتدة من عام 1947 حتى 1958 وهو العام الذي قام فيه الشعب العراقي بثورته واستطاع إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية، ومن ثم بدأ العراق والكرد مرحلة جديدة من مراحل العمل الوطني.

كان من المؤمل أن يفتح الكرد وقادة الجمهورية العراقية الوليدة صفحة جديدة للتعايش المشترك، غير أن الأمور اصطدمت بسقف المطالب الكردية التي رفضها عبد الكريم قاسم وشن حربا على معاقل البارزاني عام 1961، ولم يلح في أفق عقد الستينيات بوادر حل سلمي. عام 1970 دخلت الحكومة العراقية والملا مصطفى البارزاني في مفاوضات تهدف لإيجاد مخرج ينهي العمل الكردي المسلح، ووضعت بنود اتفاقية عرفت باسم اتفاقية مارس/ آذار 1970 للحكم الذاتي للكرد، وكان من بنودها ضمان مشاركة الكرد في تشكيلة الحكومة العراقية واستعمال اللغة الكردية في المؤسسات التعليمية، وتم الاتفاق على تأجيل البت في قضية كركوك لحين الانتهاء من إحصاء سكاني يبين نسب الأعراق القاطنة بهذه المدينة، لكن الاتفاق انهار حينما تسرع الملا مصطفى وأعلن عن حق الكرد في نفط كركوك وهو ما اعتبرته الحكومة العراقية بمثابة إعلان حرب.
ثم كانت الضربة القاصمة التي وجهت للحركة الكردية وللملا مصطفى البارزاني، حينما اتفق العراق وإيران على اقتسام مياه شط العرب في اتفاقية الجزائر عام 1975 مقابل وقف الدعم الإيراني للكرد. هنا ضعف العمل المسلح الكردي، ثم ازداد ضعفا حينما مرض الملا مصطفى وذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية للعلاج وتوفي هناك عام 1979، وفي العام التالي أنهى العراق العمل بهذه الاتفاقية ثم اندلعت الحرب العراقية الإيرانية.
تواصل حضور العائلة البارزانية من خلال مسعود البارزاني الذي ورث أباه في زعامة الحزب الديمقراطي الكردستاني عام 1979، لكن وفاة الملا مصطفى وانهيارالعمل الكردي المسلح بعد عام 1975 تسببا بخفض فاعلية البارزانيين العسكرية خلال مرحلة الثمانينات، غير أن هذه العائلة استعادت سطوتها بكردستان بعد عام 1992 وفرض منطقة حظر الطيران شمال العراق، وبعد الغزو الاميركي لهذا البلد عام 2003 وتوحيد الإدارتين الكرديتين عام 2006، أصبح مسعود البارزاني رئيسا لإقليم كردي متمتع بصلاحيات واسعة شمال العراق.