حكاية صورة

التجني على سيد كاكا


قيس قره داغي

نشرت وكالات الانباء مؤخرا صورة معبرة عن جانب من إجتماعات البرلمان الكوردستاني يظهر فيها ثلاثة اعضاء ( معمم وشيخ وشاب ) الاول غارق في تأمل عميق والثاني غارق في نومة هادئة والثالث يظهر في الصورة وقد اطلق العنان لفكيه ان ينفتحا في شهقة عريضة لينتقل بعدها الى عالم ملئ بالاحلام الوردية .

سوف لا نعلق على الصورة سوى انها سبق يتمنى كل مصور صحافي الفوز به ، غير انني وقفت طويلا أزاء صورة الشيخ الذي يظهر في تلك الصورة وهو مستسلم للنوم في الوقت الذي وكما عرفناه أنه لم يعرف معنى الاستسلام بأي صورة من صورها ، شيخ لم يفز أي روائي كوردي أو غير كوردي باستنطاقه حول حياته المليئة بالمغامرات والقفز على الموت لعشرات المرات الى جانب الصورة الشعبية المرحة التي يتميز بها الرجل بين الناس .

ذلك الشيخ ليس إلا سيد كاكه وهو الاسم الشائع الذي يعرف به بين الناس ، الانسان الذي بدأت حياته متمردا على الظلم بكل صوره ، ففي الخمسينات اشتهر بتمرده على الاقطاع والاقطاعيين في سهل أربيل ( ده شتى هه ولير ) موطن ولادته ونشأته وتمرده ومغامراته وبطولاته وشهرته ، وتعد هذه المرحلة الاولى من دخول الرجل في عالم الاسطورة الشعبية التي تحاك من نسيج مخيلات العامة من الناس حول الافراد المتميزين ولسيد كاكا خزين كبير من تلك الاساطير الشعبية .

عندما اندلعت الشرارة الاولى لثورة ايلول في 11 أيلول عام 1961 كان الرجل في طليعة القافلة ، لبس البدلة الكاكية للبيشمركة التي لا تليق الا لمثل من يحمل تلك القامة الفارعة والصدر البارز الذي يبدوا لناظره وكأنه أكمل تدريبه البدني في نادي خاص برياضة كمال الاجسام حيث بقى محتفظا بذلك القوام الى عقد من السنين خلت التقيته في مدينة رانية وثم في مسكنه في اربيل متحدثا إياه حول أحدى المعارك الشهيرة التي خاضها مبديا فيها مهارة قتالية نادرة شهد بها العدو قبل الصديق ، تدرج سيد سريعا في سلم درجات البيشمركايتي الى ان اصبح آمرا لبتاليون في تشكيل ( هيزي ده شتى هه ولير ) الى جانب مجموعة من أمثاله كالشهيد سعدي كجكة ما منحوا صفة متميزة من الاقدام والشجاعة الفائقة لهذا الهيز بين كافة تشكيلات ثورة أيلول في ذاكرة مجايلي تلك الثورة ، وقد خاض سيد كاكا معارك كثيرة في كافة جبهات القتال ولعلني أميل الى تفضيل تلك التي فرضت البيشمركة طوقا محكما على فوج من الجيش الغازي بكامل قوامه التسليحي في واد أصبح مقبرة لاولئك الغزاة ليحمل الوادي اسم سيد كاكا لحد الآن .

بعد أن اصبحت ثورة أيلول ضحية لمؤامرة دولية كبرى أبى الرجل ان يستسلم الى السكن في معسكرات اللاجئين في إيران الشاه المقبور ، وسرعان ما أصبح اسما مهما ضمن باقة الاسماء التي أسست الحركة الاشتراكية الكوردستانية بتنظير من الشهيد الخالد صالح اليوسفي ، وتطلبت الضرورة التنظيمية أن ينتقل مع رفاق دربه الى الاراضي العراقية فأبعدته السلطات البعثية للاقامة الجبرية مع أسرته الى مدينة الرمادي في غرب العراق ، وأصبح يلتقي بقادة الحركة في لقاءات وإجتماعات منظمة في مناطق متفرقة في بغداد ، ومن طريف ما ينقل لنا سيد كاكا في مذكراته التي أطلعت عليها وهي مخطوطة مع مقدمة للشاعر والكاتب عبدالله قره داغي عن تلك الايام انه كان يقود سيارته القديمة من نوع بيجو في شوارع بغداد دون ان يعرف شيئا عن مخارج ومداخل تلك الشوارع ، فكان يضظر ان يتابع سير حافلات نقل الركاب التي تؤدي الى المناطق حيث أوكار الاجتماعات الحزبية يتوقف بوقوف الحافلة وينطلق بأنطلاقتها ، في تلك الاجتماعات أختمرت فكرة أحياء المفارز الاولى للثورة الكوردية ثانية ويتحدث سيد كاكا بالتفصيل عن رحلة الالتحاق بالثورة ، تلك الرحلة السرية التي امتنع الرجل حتى إخبار ذويه الساكنين في منفاهم بالرمادي عنها ، وشاءت الاقدار أن تصل معلومات تشكيل اللبنات الاولى للثورة من قبل سيد كاكا ومجموعته الى مديرية الامن العامة وكان منتسب لهذه المديرية برتبة رئيس عرفاء أمن يعمل في القلم السري يسكن بجوار مسكن سيد كاكا فتعرف على صورته المرفقة مع التقارير وسارع الى ذوي جاره وأخبرهم بالقصة الكاملة ونصحهم بالاختفاء عن الانظار كي لا يقعوا فريسة لجلادي مديريتهم ، عندئذ خرجت العائلة تبحث عن معيلهم والتحقوا به وسكنوا الريح حيث لم تكن آنئذ منطقة محررة للبيشمركة تصلح لإيواء عائلاتهم ، وكانت المفارز تنتقل من منطقة الى أخرى تبعا لمتطلبات وقواعد حرب العصابات التي كان السيد أحد روادها في كوردستان .

أزاء تشكيل المفارز الاولى وزيادة عدد الافراد الملتحقين بالثورة لم تقف حكومة البعث مكتوفة الايدي وهي التي عملت المستحيل الذي أطاح به أخيرا من أجل القضاء على ثورة أيلول التي التفت الشعب الكوردستاني حولها بمعظم أطيافها وشرائحها ، وأكتسبت تلك الحكومة قوة إضافية بعد ما ضمنت تعاون الحكم الشاهنشاهي المقبور معها حسب بنود إتفاقية الجزائر المشؤومة ، فشكلت غرفة عمليات أنيطت قيادتها الى الفريق الركن إسماعيل تاية النعيمي بإعتباره خبير بمحاربة مفارز العصابات ، واصبحت كافة التشكيلات العسكرية العاملة في كوردستان ومناطق شمال العاصمة بغداد تأتمر بغرفة العمليات تلك ، واعدت هذه الغرفة بالتعاون مع الجنرال أزهري من الجيش الايراني خطة عسكرية أطلقوا عليها اسم خطة البساط ، أي ان تشترك كافة الاسلحة في تطويق المناطق المشتبه وجود البيشمركة فيها وثم البدء بتضييق الخناق عليها الى أن تجتمع المفارز في منطقة البساط لتتم بعدها سحب البساط وإيقاع الفريسة في مكمن الموت المعد لها ، يشرح الفريق الركن إسماعيل تاية النعيمي باسهاب عن تلك العمليات وفي كتابه الموسوم ( تجربتي في القيادة ) الذي أصبح بعدئذ ضمن المنهج التدريسي لكلية الاركان العراقية التي تمنح المتخرجين منها درجة ماجستير علوم عسكرية ، ويذكر أسم سيد كاكا لمرات عديدة في تلك الخطة ويقول عنه انه من ( المتمردين ) الذين لهم خبرة وباع طويل في حرب العصابات ويقول انه ونفر قليل من رجاله تمكنوا الانفلات من خطة البساط وثم يستطرد متحدثا عن الرجل وهو كما يبدوا يظهر إعجابه به ضمنا فيقول عنه مادامه ( سيد ) فهو من أصل عربي ، وأخيرا يقول النعيمي عن خسائر الجيش أنها كانت ضئيلة قياسا بحجم العملية ومن ضمن تلك الخسائر إصابة ثمانية طائرات هليكوبتر ، والحقيقة التي لم يعرفها النعيمي أو تجاهلها خوفا من عقاب القيادة العراقية ان الاشتباك الرئيسي التي وقع في المرتفعات المشرفة على قرية ( ده شتيو ) التابعة لقضاء قلعة دزة كان مع مفرزتين لاغيرهما من مفارز الثورة وهما مفرزتي سيد كاكا ومفرزة سعيد كجكة رفيق درب سيد كاكا وعم السيد قادر عزيز سكرتير حزب زحمتكيشاني كوردستان والذي سقط شهيدا مع عدد من البشمركة لا يتجاوز عددهم عشرة أفراد في نفس الرابية التي أطلق عليها أسم البساط ، وتعد تلك المعركة التي اعتبرت أعلانا عن بدء العمليات الكبرى للثورة التي أختتمت بأنتفاضة آذار عام 1991 وتشكيل حكومة كوردستان الفيدرالية .

هنالك الكثير من المحطات المشرفة في حياة ذلك الرجل الذي تبدوا عليه علامات الشيخوخة في الصورة وقد وجدت من الضروري جلب أنظار مشاهدي تلك الصورة كي لا تفسراللقطة التي ظهر فيها الرجل بتلك الهيئة تفسيرات بعيدة عن حقيقته من قبل من يجهل حياته الحقيقية .

أما عن أعضاء البرلمان الكوردستاني نقول ، ان الضرف الدقيق الذي يمر فيه الكورد وكوردستان يتوجب اليقظة الدائمة ووقت الاستسلام الى النوم لم يحن بعد.