تجارب الحكم الكردية.. رؤية نقدية
عاش الكرد في العصر
الحديث تجربتين للحكم المستقل أو شبه المستقل كانت أولاهما تجربة جمهورية مهاباد في
إيران والثانية كانت تجربة حكم الكرد لأنفسهم في كردستان/العراق منذ عام 1992، ولكل
من التجربتين دروس وعبر ومعان خاصة لدى الكرد الذين تأرجحت قضيتهم بين الكفاح من
أجل تقرير المصير وبين رفض الأنظمة الحاكمة في الدول التي توزعوا عليها الاعتراف
بحقوقهم.
ولدت جمهورية مهاباد
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية نتيجة عوامل دولية، تمثلت في الصراع البريطاني
السوفياتي على تقاسم النفوذ في إيران بهدف الاستفادة من الثروة النفطية فيها،
وعوامل داخلية خاصة بالكرد تتمثل في حرمانهم من التمتع بالحقوق القومية
والسياسية أسوة بباقي الشعوب الأخرى بإيران في ظل دستور 1906. كان الكرد يؤلفون ثالث أكثرية في إيران بعد الفرس والأذربيجانيين، أي حوالي سدس العدد الكلي لسكان إيران، ومع ذلك بدأت ومنذ أوائل الثلاثينيات سياسة صهرهم في إيران من خلال منع استخدام اللغة الكردية في المدارس والدوائر وترحيل الأكراد وتغيير أسماء المدن الكردية، الأمر الذي حفز على نمو حركة قومية تحررية كردية منذ أوائل الأربعينيات من القرن الماضي اتخذت شكل تنظيم سياسي تجلى في تشكيل الحزب الديمقراطي الكردستاني/إيران بزعامة قاضي محمد. وقد أدى هذا النشاط السياسي الكردي إلى تأسيس جمهورية مهاباد كواحد من المكاسب التي استفاد فيها الكرد من دعم سوفياتي في وقت كانت فيه القوات السوفياتية لا تزال تسيطر على أجزاء من إيران منذ دخولها إلى هناك في صيف عام 1941 بصحبة القوات البريطانية، وكان من المفترض أن تنسحب القوات السوفياتية من إيران بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية حسب اتفاقية عام 1942 مع حكومة طهران لكن السوفيات رفضوا الانسحاب من إيران عشية اندلاع الحرب الباردة وقاموا بالمساعدة على تأسيس جمهوريتين في منطقة نفوذهم العسكري داخل إيران، كانت أولاهما جمهورية أذربيجان بينما كانت الثانية جمهورية مهاباد في المنطقة الكردية من إيران. تم إعلان ولادة (جمهورية مهاباد الشعبية الديمقراطية) الكردية بواسطة زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران قاضي محمد في 22 يناير/كانون الثاني عام 1946 وعاصمتها مهاباد, وشملت مساحتها 30% من المساحة الإجمالية لكردستان الشرقية. وجاء إعلان تأسيس الجمهورية بعد بضعة أيام من قيام الحكومة الإيرانية بتقديم شكوى إلى هيئة الأمم ضد الاتحاد السوفياتي متهمة إياه بالتدخل في شؤونها الداخلية وعدم تنفيذ بنود معاهدة 1942. وكان من نتيجة فشل الحكومة الإيرانية في حل الخلاف مع الاتحاد السوفياتي استقالة الحكومة الإيرانية، وتشكيل حكومة جديدة في 27 يناير/كانون الثاني عام 1946 برئاسة "قوام السلطنة", وقد عمد هذا الأخير إلى استخدام الأسلوب السياسي لحل خلاف بلده مع موسكو, ومكث في العاصمة السوفياتية حوالي شهر, لكنه فشل في إقناع قيادة الكرملين بسحب قواتها.
انهيار الجمهورية وأصبحت إيران بعد الانسحاب السوفياتي جزءا من منطقة النفوذ البريطاني والأميركي، وكانت تصفية جمهوريتي مهاباد وأذربيجان جزءا من أولى نتائج هذه المتغيرات، إذ إنه بعدما تأكد قوام السلطنة من حقيقة الموقف الأنجلوأميركي الداعم لإيران, وبانسحاب القوات السوفياتية قامت القوات الإيرانية في ديسمبر/كانون الأول عام 1946 باقتحام جمهورية أذربيجان ثم بعد ذلك بأيام اقتحمت هذه القوات جمهورية مهاباد لتقضي على هذه الجمهورية الفتية، ثم لتقوم بعد ذلك وتحديدا في مارس/آذار 1947 بإعدام قاضي محمد وعدد من معاونيه من قادة الجمهورية ومناضلي الحركة الكردية. لم يكن شعار جمهورية مهاباد الانفصال بل الحصول على حق الحكم الذاتي رسميا داخل إيران. وشهدت التجربة التي استمرت نحو عشرة أشهر تشكيلات وزارية بزعامة قاضي محمد وقوات عسكرية محلية بزعامة مصطفى البارزاني (القائد الكردي العراقي بعد إخفاق تجربته في العراق عام 1945). وتمثل جمهورية مهاباد نقطة التحول في المطالب القومية الكردية من حيث الإعلان عن شكل من أشكال التنظيم الإداري السياسي، وإليها يعود الفضل في إنشاء أول مسرح كردي واستعمال اللغة الكردية في التعليم وجعلها اللغة الرسمية في الجمهورية وإنشاء جيش كردي وإذاعة كردية وتكوين نقابات مهنية وفي إغناء الصحافة الكردية والإصلاحات الزراعية والإدارية وفي إعطاء دور للمرأة وتطوير الفن الكردي وتحريك القضية الكردية دوليا .... إلخ. وهناك بالطبع عوامل عديدة دولية وإقليمية وداخلية أدت إلى الانهيار السريع للجمهورية الوليدة، وتمثلت أبرز العوامل الدولية في الصراع السوفياتي مع الغرب الذي استثمرته حكومة طهران، إلى جانب العوامل الداخلية المتعلقة بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية للقبائل الكردية وعدم استطاعة الحزب الديمقراطي الكردستاني/إيران اعتماد سياسة دبلوماسية ناجحة في احتوائها فضلا عن الافتقار إلى إستراتيجية قومية مع أجزاء كردستان الأخرى (تركيا، العراق، سوريا) إضافة إلى محدودية مساحة الجمهورية إلى جانب الارتجالية والعفوية والعاطفة القومية التي كانت من سمات هذه التجربة.
ساهمت عوامل دولية
وإقليمية وداخلية (عراقية وكردية) متداخلة في هذه التجربة، بدأت مع الاجتياح
العسكري العراقي للكويت في أغسطس/آب 1990 الذي قاد إلى حرب الخليج الثانية بين
العراق وبين قوات تحالف من 33 دولة انتهت بهزيمة عسكرية ووهن سياسي وأزمة اقتصادية
عراقية. وقد سعى التحالف الدولي إلى استثمار وجود المعارضة العراقية الناشطة آنذاك (ومن ضمنها الأحزاب الكردستانية) التي كانت مؤتلفة في جبهة سياسية وعسكرية منذ عام 1987، فكان أن قادت هذه الجبهة في 5 مارس/آذار 1991 انتفاضة شعبية مسلحة ساهمت فيها الأحزاب الكردستانية مع المليشيات العسكرية التي كانت تابعة للنظام السياسي العراقي (أفواج الدفاع الوطني) إضافة إلى قطاعات واسعة من الجماهير نتيجة استيائها من الممارسات الخاطئة للنظام السياسي العراقي في التعامل مع القضية الكردية وبالذات خلال الفترة من 1975 إلى 1991. واستقراء بانوراما الأحداث في هذه التجربة يشير إلى سيطرة الانتفاضة على معظم أجزاء كردستان/العراق خلال الفترة من 5 إلى 21 مارس/آذار 1991، ولكنه بفعل عوامل دولية بدأ الخط التنازلي في سقوط مدن الانتفاضة (أربيل، السليمانية، كركوك، دهوك) في أيدي القوات العسكرية العراقية نتيجة عدم تكافؤ التوازن العسكري العراقي مع قوات الانتفاضة، ومن ثم بدأت الهجرة المليونية إلى الحدود الدولية (الإيرانية والتركية). شعرت إيران وتركيا بخطورة الموقف عليهما، الأمر الذي دعا إلى مبادرة دولية لإنقاذ الموقف تجلت بوضوح في قرار مجلس الأمن الدولي 688/1991 ومن ثم اعتماد النظام السياسي العراقي لسياسة الحوار بإجراء مفاوضات مع أحزاب الجبهة الكردستانية في أبريل/نيسان وأكتوبر/تشرين الأول 1991، لكن تلك المفاوضات باءت بالفشل نتيجة عدم تفاهم حول موضوعات المناطق الجغرافية والتعددية السياسية. وكانت نهاية المطاف بعد ذلك خروج الإدارات الحكومية العراقية في أكتوبر 1991 من مدن أربيل والسليمانية ودهوك لتشهد هذه المدن فراغا حكوميا تم ملؤه بسلطة الأمر الواقع لغاية مايو/أيار 1992 حيث جرت أول انتخابات تشريعية لبرلمان كردي في يونيو/حزيران 1992. تشكلت بعد ذلك أول حكومة كردية بين الحزبين الكردستانيين الرئيسيين (الديمقراطي والاتحاد الوطني)، وبعد ذلك بدأت مرحلة جديدة على الصعيد الداخلي في بناء مؤسسات قانونية تجلت في جملة قوانين صدرت عن البرلمان خاصة بالوزارات وكيفية التعامل مع الوضع الجديد في إقليم كردستان بإطار قانوني وكل ذلك جرى في أجواء من حماية دولية للكرد في منطقتهم التي عرفت بـ(الملاذ الآمن). ومهما يكن من أمر فإن التجربة هذه واجهت مشكلات عديدة تجلت في ما يلي:
إقليم كردستان بعد
الحرب وتجلت هذه الترتيبات في البدء بتجربة مجلس الحكم الذي أصدر قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، ثم انتقال السلطة وإجراء عمليتين انتخابيتين خلال عام 2005 إلى جانب كتابة دستور دائم والاستفتاء الشعبي عليه، وفي كل هذه التطورات كان إقليم كردستان طرفا فاعلا في الأحداث. وشهدت هذه الفترة تنسيقا بين الأطراف السياسية الكردستانية في إطار قائمة التحالف الكردستاني وكانت جزءا من انتخابات 30/10/2005، حيث تشكل ثاني برلمان كردستاني، وكانت أيضا جزءا من التصويت على الدستور الجديد في 15/10/2005 وقبل ذلك المشاركة في تجربة مجلس الحكم والحكومة الانتقالية والانتخابات التشريعية العراقية. ويجد التفسير القانوني للموضوع نفسه في اتخاذ الكرد لشكل الاتحاد الاختياري في الدولة العراقية الجديدة القائمة على الأسس الديمقراطية والبرلمانية والاتحادية (الفدرالية) المثبتة في الدستور الجديد، أما التفسير السياسي فيجد نفسه في ظل الأوضاع الدولية والإقليمية التي يحذر فيها الكرد من إعلان استقلالهم.
وقد اتخذت خطوات
لتوحيد الادارتين ( أربيل، السليمانية)، في مقدمتها تشكيل حكومة مشتركة نالت ثقة
الرلمان الكردي في السابع من مايو/ آيار 2006، الى جانب خطوات اخرى سبقت
ذلك كاستحداث منصب رئاسة الإقليم. وفى كل الأحوال فإن العملية السياسية الجارية في العراق ما هي إلا عبارة عن معادلة معقدة تتفاعل فها عوامل داخلية تتجلى فى الخارطة السياسية الداخلية والأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وعوامل خارجية تتجلى في الملف الإقليمي المعقد للموضوع (إيران، تركيا، سوريا، دول الخليج، الجامعة العربية) والملف الدولي (الولايات المتحدة وبريطانيا، منظمة الأمم المتحدة). والقضية الكردية جزء من هذه المعادلة التي تتسم بالضبابية المستقبلية، ولكن الكرد على ما يبدو استفادوا من تجارب الماضي وبدؤوا بصياغة تحالفات مرحلية وإستراتيجيات مستقبلية مدروسة على أساس من توقع الاحتمالات والتحسب لها.
مناطق الأكراد الأخرى
|