الشاعر الكوردي الكبير نالي




لابد لمن يرتقي سلم الابداع ان يتجرع مرارة الأزدواجية في خلجات نفسه التي ترشَّح منها النتاج الأدبي، فحولت ما تعتور نفسه من تراكمات الاضداد الى بريق لماع من الأثر الابداعي الذي هو الحصيلة الثمينة من كنوز الذهن المتوقد، فالأزدواجية التي تصيب حس المبدع ونفسه عندما تهطل من دواخله الى عالمه الخارجي ابداعاً غزيراً، هي التي تحدد طبيعة هذا الابداع والمستوى الذي يرتقيه شكلاً ومضموناً... هذا التناقض هو الذي يشكل ملامح شخصية المبدع وحقيقة ابداعه ذلك لان ما جلبه المبدع من عنفوان الفكر وسموه، انما هو وليد هذا التضاد المحتدم الذي يعتلج في قرارة نفسه، اما عن عالمه الخارجي فهو مزيج من طغيان هذا التناقض الذي يظهر على مسرح شخصيته الخارجية تارة، ويختبىء تارة اخرى في القعر فلا يبدو طافياً على ظواهر سلوكه
.
فهو يركن الى ذلك البريق الخاطف الذي يصيب عقله وفكره، فيتزلزل كيانه في مواجهة تلكم الصدمة، فيوهم العالم الخارجي بانه طاف على حقول فكره الخصبة، طائف من الجن أو أنه اصابه داء عضال فلا يجد له شفاء، تلك الازدواجية التي تولدت من رحم المعاناة الحقيقية ومن عصارة الخبرة الحية والتجربة الجدية لواقع الحياة، فديمومة الحياة انبثقت من احتكاك مجموعة من الاضداد والتصادم المباشر فيما بينها. والمبدع الحقيقي هو وليد هذا التنافر وهذا الصراع الازلي، ومن البداهة ان يعبر نتاجه عن روح هذا الصراع..

ذلك التناقض المريب الذي ترعرع في الطبقات العميقة والمخبوءة في كيانه من نور وظلام وفرح وترح وحياة وموت، كل ذلك يمنح نتاجاته اباء وشموخاً يندر نظيرهما ويبلغان مبلغاً يؤهلانه لتلقي نفحات الابداع. وليست المعضلة هنا في الحصيلة الحية للأبداع ولكن تكمن المعضلة الاساسية في شخص المبدع الذي يطفو على مسرح تصرفاته وانفعالاته الخارجية شيء من هذا التناقض المريب الذي يجعله قابعاً في الدرك الاسفل من هذا المجتمع، تتلقفه الانظار احياناً بالأزدراء والسبابات بالاتهام، لانه منبع كل التناقضات التي لا يدين لها المجتمع بالخضوع والخنوع.أنه يمتلك خبرة عظيمة في طباع الناس واحوالهم في حين يبقى هو نفسه ذلك العالم الغامض الذي لا يستطيع المجتمع المحيط به ان يقتحمه رغم كل هذا التقدم في أسس ونظريات علم النفس، لانه يحمل في طيات انفعالاته وتصرفاته الشخصية عدداً لا يحصى من المتناقضات، فهو يسخر مستهزئاً عندما تشتد الازمات ويتمايل ضعفاً عندما يتطلب الموقف القوة والعزم، ويكون هادىء البال مطمئن الخاطر عندما لا يجد درهماً في جيبه. انه عالم من الابداع الذي لا يستطيع ان يخوض غماره الا هذا التعيس في نظر البلهاء.

 ولعل الشعر الكلاسيكي الكوردي يزخر بنماذج حية خالدة من هذا التناقض الذي جره الى الوجود تشابك الاضداد وامده بالحياة استمع الى نالي وهو يقول:/ حه ره كاتم سه كه نات و، سه كه ناتم حه ره كات/

 جوسته، سستى، قه ويه ضعيف

 وسه ريعه كه سه لم/ (حركاتي: سكنات. وسكناتي: حركات- نشط: الضعف قوي: الضعيف. وسريع: كسلي).

 ان شاعرنا الكبير (نالي) يصف في هذا البيت المحبوك طبيعة تصرفاته وغرابة سلوكه بين الناس فهو دؤوب في العمل متواصل الحركة متحمس لطرد السكون عن نفسه وعن جسمه ولكن لا يبدو عليه ذلك وتذوب همته وعزمه في جموده وسكونه في الوقت الذي يستزيد فيه الناس من الحركة والعجلة واقصى ما يرمي اليه (نالي) هو التعبير الصادق عن واقع حاله الملىء بالمتناقضات ازاء المجتمع الذي لا يساير الشاعر المبدع في تصرفاته وانفعالاته وسلوكه، فهو غريب شارد الذهن عن معترك الحياة وتفاصيلها التي لا تنسجم وحس الشاعر المبدع انه لا يستطيع ان يتوغل في صلب التفاصيل الحياتية، لان ذلك سيصيبه بالذلة والهوان فكيف يرضى بالحضيض من يرنو الى قمم الابداع ؟ انه يانف ان يكون كذلك، فهو يرتقب تلك اللمحة الخاطفة التي تهب الحياة لقلمه وفكره، انه يترصد الابداع الذي هو عالم من الغرابة والكآبة وثمار قطوفها قاصية ليست في متناول الفكر أنه مزيج مركب من عصارة المعاناة وخلاصة المؤهلات والطاقات المكبوتة في عباب الفكر والنفس.

 (نالي سه رت له كونبه ده كه ى خانه قاده كا / لايى بره له مه شعه له لايى له مه شغه له).

 (نالي راسك شبيه بقبة هذا الخانقاه/ جانب منه احتوى الشموع والجانب الاخر منه مليء بالمشاعل)

 جانب من اهتمامات الشاعر تنصب حول الافكار النيرة التي عبر عنها بالشموع ويجوز ان يكون قد قصد بذلك معاني الحب والعشق التي هي كالشموع والقناديل تضيء عتمات ذهنه وروحه.

 والجانب الآخر من عقله ورأسه مليء بالهموم التافهة أليس هذا من قبيل جمع التناقضات في دائرة ذهن الشاعر وروحه. ولا يمكن الجزم بان المبدع الذي يحمل في دواخله هذا التناقض العجيب يمكن ان يظل بعيداً عن شؤون الحياة وشجونها فهو لسان العصر وقلمه أنه يختبر الحياة عن كثب ويترقب التطورات والتغيرات في الحياة وما يعقب ذلك من تقلبات في تصورات الناس ومفاهيمهم فيكون الترجمان الصادق لمشاعر واحاسيس الانسان المعاصر، وهو مثقل بالأنين وينوء تحت وطأة المعاناة مجسداً احاسيسه المغتربة وهو ايضاً رنين في الأفق يتجاوب مع اصداء مشاعره وبواطنه فتنضح ألهاماته مع نفحات نقية تتقطر آلاماً عذبة ليتوج بها نتاجه الأدبي.

  ولكن ما الذي يجعل المبدع مطمئناً لهذه الازدواجية التي تقطع الاكباد وتعصر الروح عصراً. ثم مالذي يجعله يتقبل هذا التناقض بقبول حسن غير مكره ولا مجبر هل هو: الاستجابة الحية لالهامات الابداع لعلها المغامرة بالحياة في سبيل الوصول الى قمة النتاج الابداعي الذي لا يوهب الالمن اجتاز هذا اليباب القفر من المعاناة والألم.وسوف يستقيم الوصف ويأخذ دقة اكثر اذا ماوجهنا ايحاءات الفكر الى تلك المتناقضات التي يصدر منها الابداع كي نستطيع ان نحدد تعبيراً مؤطراً ومقيداً ليشكل تفسيراً ذا صفة واضحة لدوافع الابداع ومنابعه ومكامنه ولسنا بصدد وضع تعريف نظري للحالة الابداعية لان محاولة من هذا النوع يتطلب غوصاً اعمق.

 ان الانطواء على الذات هو منبع الالهام وهو الركون الى التناقضات التي تعتبر النتيجة الحتمية التي ينتهي أليها المبدع المتوغل في ابداعه، ولكن لا يمكن الجزم بأن المبدع سيكون مطمئن الخاطر عندما يلوذ بدواخله أي ذاته لانه منبع الاضطراب والقلق وتنبثق منه كل آلام التناقضات ولكن هل يعتبر هذا الأمر مأزقاً زلقاً يقع فيه المبدع المنطوي على ذاته القلقة ام أن الانطواء والعزلة والهروب من المجتمع الى هذا المكان المضطرب- الذات- هو الحل الامثل لمأساة المبدع.

 

حينما يتهدم الصرح المشيد للأبداع فأن تبعة هذا الأمر ستقع على كاهل الأديب الذي جفت منابع ابداعه نظراً لانصهار مخيلته الفنية في معمعة التفاهات والاباطيل، أنه الهروب من نيران الازدواجية التي طالما امدته بالعبقرية الفذة فينطلق مرعوباً مرهوباً طالباً الارتماء في احضان النجاة كي ينجو من تناقضاته التي اتخذت من روحه وعقله مسرحاً وميداناً لتلك الملحمة، التي تنتهي بانتصار الكاتب المبدع انتصاراً ساحقاً.

 غير ان محاولة الانسلاخ من هذه الأزمة ستبقى ضرباً من العبث واختلالاً في العقل فهو يهرب من منبع التناقضات الى ملهمة تلكم التناقضات التي هي شجون الحياة وانماطها وتقلباتها وتغيراتها.   اذ على المبدع ان يرمز ابداعه وفكره بمزيد من الصقل والجلاء والمعرفة كي لا ينضب معين ألهاماته الثرة وليظل قلباً نابضاً يتدفق سعة وشمولاً وتفهما لواقع العصر.

 

اننا نعيش في زمن خضعت منه الايديولوجيات والنظريات لتحليل قاس قلما تجد فكرة أو فلسفة خرجت سالمة من براثن الاتهام والتوبيخ، أنه لأمر مريع حقاً ان حدث كل هذا في وقت قصير فقد تهشمت رؤى كثيرة وتحطمت مسلمات عديدة خصوصاً وان العصر الحاضر راح يصوغ طروحات مستوحاة من التقدم العلمي والتكنولوجي، ان هذه المسألة بحد ذاتها تعتبر مزلقاً قد جعل المبدع في الخطوط الخلفية من الصدارة والمكانة المرموقة، فهل يعني هذا ان التقدم العلمي والتكنولوجي ماحق لابداع الكاتب واذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل الكاتب المبدع يواجه الاختراعات والانجازات العلمية بسيل من الحث وكلمات التبريك لعلها الازدواجية التي تطفو على سلوك المبدع فتجعله يساير واقعاً سلبياً لا يتماشى مع طموحه في قيادة ركب الحياة.