بين التدين والانفتاح على الغرب

إن القيم التي تتحكم بالعلاقات ضمن العائلة الكردية قد تتحكم إلى حد بعيد بالعلاقات ضمن المؤسسات الأخرى في المجتمع، كالمؤسسات الدينية والسياسية والتربية والعمل. وبالرغم من ظهور القيم السلفية والأصولية والقدرية والانغلاق وغيرها، يشهد المجتمع الكردي في مرحلته الانتقالية منذ فترة التسعينيات أو بالأحرى استقلال كردستان عن الحكومة المركزية في بغداد ظهور قيم جديدة في المجتمع الكردي خاصة عند الشباب، كقيم الانفتاح على الغرب، حيث تبنى الشباب الكثير من معتقدات الغرب وأزيائه ومفاهيمه، بما في ذلك ثقافة العولمة والإنترنت، حتى أن بعض الشباب المتخرجين في الجامعات الغربية، يحاول التكلم باللغة الإنجليزية والتخلي عن تقاليدها القديمة.

"برغم ظهور القيم الدينية السلفية في كردستان فإن الشباب الكردي بات يتبنى بشكل متزايد قيم الانفتاح على الغرب ويفضل التحدث بالإنجليزية"
 

وهكذا تتصارع في المجتمع الكردي المعاصر تيارات عديدة تميل باتجاه السلفية من ناحية والمستقبلية من ناحية أخرى (معاكسة) وخاصة عند الجيل الصاعد من الشباب الكردي الرافض للماضي والتقاليد، ويتجلى هذا الصراع في الحياة اليومية، والحركات السياسية، والاتجاهات الفكرية ومختلف النشاطات الإنسانية.

ومن القيم الاجتماعية التي برزت بشكل واضح أيضاً بعد فترة التسعينيات من القرن العشرين، بسبب هجرة العمالة والكفاءة الكردية للخارج وسياسة الانفتاح الاقتصادي، تنامي قيم الاتجاهات الاستهلاكية المفرطة، وسيادة القيم الفردية، والإغراق في تحقيق الطموحات الشخصية القصيرة الأجل، وسيادة قيمة المال على كل قيمة أخرى، وظهور قيم التعددية السياسية وقبول الرأي الآخر والديمقراطية والمواطنة، وقيم التغرب عن المجتمع.

غالبية الكرد مسلمون، وأكثرهم من أهل السنة والجماعة، وقبل دخولهم الإسلام في القرن السابع الميلادي كان الكرد يعتنقون الديانة الزرداشتية التي لم تعرف إلا بين الأقوام الارية. ولقد تحول الكرد عام (٢٠) للهجرة من الديانة الزرداشتية إلى الإسلام من دون أن يمروا بالمسيحية، وكانت الزرداشتية الديانة المشتركة التي ينتمي إليها جميع الكرد.

وينتمي غالبية الكرد إلى المذهب الشافعي. وقد أختاروا هذا المذهب، لتأكيد اختلافهم عن الأتراك الذين اختاروا المذهب الحنفي، ويعزى الباحثون انتماءهم لهذا المذهب إلى خضوع كردستان المبكر للحكام السُنة، وكذلك نشاط علماء الدين الكرد الذين درسوا العلوم الدينية في المدرسة النظامية ببغداد أثناء الخلافة العباسية التي كانت تتبنى المذهب الشافعي.

وتنتشر بين الكرد الطرق الصوفية التي تختلف عن بعضها اختلافاً بسيطاً، وأكثر الطرق شيوعاً هي الطريقة القادرية، والطريقة النقشبندية، وقد لعب رجل الدين الذي يدعى (ملا) في كردستان دوراً بارزاً وإيجابياً في الحركة الوطنية التحريرية الكردية من حيث الولاء والانخراط فيها.

وبين الكرد، فضلاً عن الدين الإسلامي، اتباع لأديان ومذاهب اخرى، كالمسيحية، واليزدية، والعلي اللاهيين، والعلويين، وأهل الحق، والكاكائية. أما اليهود في كردستان العراق، فقد هاجروا إلى إسرائيل بداية عام 1948، وهم معروفون ألآن كجالية كردية يهودية.

الاغتراب الديني
تركت البيئة الطبيعية المتنوعة للمجتمع الكردي تأثيراً على معتقدات الكرد الدينية بحيث جعلتهم أكثر ميلاً للاعتقاد بالأشياء الملموسة أكثر من الإيمان بالرموز المجردة، وربما يفسرهذا الميل الانحرافات الكثيرة عن الإسلام التي تتبناها مجموعات عديدة من الكرد بالانتماء إلى ديانات تحاول أن تترجم الرموز الدينية المجردة إلى معان واقعية ملموسة، كما قد يفسر هذا الميل إيمان الكرد بالأولياء والشيوخ والشخصيات الدينية المرموقة، وقد اتفق على هذا الرأي جميع الكتاب والرحالة الذين درسوا المجتمع الكردي.

"الشعور العام السائد لدى الكرد هو أن أراضيهم احتلتها حكومات إسلامية مجاورة تحت ذريعة الأخوة الدينية"

إن الدين (إذا عرفناه كواقع اجتماعي وليس كنصوص) لا يستطيع في المرحلة الراهنة التي يمر بها المجتمع الكردي، أن يشكل حركة إنقاذ ثورية في المجتمع كما يؤكد عليها بعض علماء الاجتماع، لأن المجتمع الكردي بعد الانتفاضة الربيعية عام 1991 وتشكيل البرلمان الكردي والحكومة عام 1992 وحتى الآن تمخض عن ظهور قيم جديدة في المجتمع، والواقع الاجتماعي الحاضر هو واقع طائفي أكثر منه واقع ديني وذلك لانتشار الشعور القومي لدى الكرد بصورة عامة أكثر من أي وقت مضى، بوجود كيان سياسي مستقل لهم، فضلاً عن العامل الإثني (العرقي) وهناك عامل آخر يكرس حالة الاغتراب في الدين، وهو الشعور العام السائد لدى الكرد باحتلال أراضيهم من قبل الحكومات الإسلامية المجاورة على أساس أننا إخوة في الدين ولا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، مما أدى إلى احتلال أراضي الكرد منذ ظهور الدولة الاسلامية باسم الدين حتى اليوم.

ورغم أن المجتمع الكردي محافظ ومتمسك بالمعتقدات الدينية، فإني وجدت في دراسة لي حول التنشئة السياسية الاجتماعية في كردستان العراق أن الدين يأتي بعد الوطن من حيث الأهمية لدى شباب الجامعات الكردية، غير أن تيارات دينية سياسية عدة تنامت في المجتمع الكردي في عقد التسعينيات من القرن الماضي مثل الوهابية والإخوان المسلمون عكست هذا التسلسل ووضعت الولاء الديني قبل الوطني، وتبنت هذا الاتجاه قوى إسلامية كردية مثل الرابطة الإسلامية الكردية، والاتحاد الإسلامي لكردستان العراق، والحركة الإسلامية الكردية، والجماعة الإسلامية.
 

العلاقة مع الشعوب المجاورة

يرجع تاريخ علاقة الشعب الكردي مع الشعب العربي إلى ما قبل ظهور الإسلام، وتوطدت هذه العلاقة أثناء الفتوحات الإسلامية التي شارك فيها الكرد، ورغم هذه الصلة الوثيقة بين الشعبين العربي والكردي، فإن الرأي العام العربي، سواء رجل الشارع أو معظم المثقفين، لا يعرفون إلا القليل عن الشعب الكردي وعن قضاياه، وعن تأثير حل القضية الكردية على الأمن القومي العربي خاصة، وعلى استقرار المنطقة عامة.

"العرب لا يعرفون إلا القليل عن الكرد الذين يعتقدون أنه لا استقرار ولا كرامة لهم إلا بتأسيس دولة مستقلة"

وقد تسبب التعامل السيئ والمتعسف للحكومات المتلاحقة في بغداد، واعتماد الإعلام العربي مرجعيات غير منصفة وغير دقيقة في تناول القضايا الكردية، حتى باتت كردستان توصف عربيا بأنها إسرائيل ثانية في حين أنها فلسطين أخرى. تسبب كل ذلك بتنمية شعور قوي لدى الكرد بأنه لا يوجد فرق بين النظام البعثي ونظام شيعي وسُني آخر في العراق، كما نما شعور آخر بأنه لا أمان ولا استقرار ولا كرامة إلا بوجود دولة كردية مستقلة في العراق، بل إن التعامل العربي الخاطئ مع قضية الشعب الكردي أدى إلى ردة فعل عكسية من قبل الكرد الذين باتوا يرغبون بدراسة اللغة الأجنبية دون العربية. وهناك جيل من الكرد في العراق لا يعرفون العربية ولا يعرفون عاصمة العراق (بغداد) فهو جيل الإنترنت والحاسوب والعولمة وليس أصدقاء الجبال كما كانوا يطلقون على الكرد من قبل الأنظمة العربية والتركية والفارسية المحتلة لأرض كردستان، رغم أن الكرد في الماضي ساهموا مساهمة جادة في تطوير وإغناء اللغة العربية.