حركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي

 

تعتبر العمليات المسلحة التي قام بها الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في لواء السليمانية عام ١٩١٩عشية قيام الدولة العراقية أوائل العشرينيات من القرن الماضي والتي استمرت حتى عام ١٩٣١ محطة مهمة في تاريخ العمل العسكري الكردي.

من التحالف مع تركيا إلى الانقلاب عليها
"بدأت عمليات الأكراد المسلحة في العراق مع المحاولات الأولى لإنشاء الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي على يد الشيخ محمود البرزنجي الذي نادى بحكم ذاتي للأكراد
"
 

كان الشيخ البرزنجي ينتمي إلى أسرة كردية مشهورة لها نفوذ ديني واسع بين الكرد في السليمانية، وكانت الدولة العثمانية في صراع مع بريطانيا للحفاظ على وجودها في العراق. فأمده الأتراك بالفعل بالمال والسلاح ووضعوا تحت تصرفه الفوج العثماني من لواء السليمانية عام 1918 وأعلنوه متصرفا في شؤون اللواء بأكمله.

لكن بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى انضم الشيخ البرزنجي إلى الطرف الذي كسب المعركة فأعلن تسليم لواء السليمانية إلى القوات البريطانية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1918 ولم يكتف بذلك بل سلم لهم الفوج العثماني نفسه فوقع ضباطه وجنوده أسرى في يد القوات البريطانية، وقد كافأه الإنجليز على ذلك بتعيينه حاكما (حكمدار) على لواء السليمانية لكنهم عينوا معه الرائدين نوئيل ودانليس مستشارين له.
 

مواجهات عسكرية ضد بريطانيا
لم يرض البرزنجي بما حصل عليه من بريطانيا واعتبره غير كاف مقابل ما قدمه من خدمات لها فقد كان يتطلع إلى حكم المزيد من المناطق والألوية الكردية،  فقرر مواجهة بريطانيا بعد أن أعلن أنها تنصلت من وعودها له.

 بدأ البرزنجي يتصل بالحركات المناوئة للنفوذ البريطاني في العراق لا سيما في منطقة شرناك الواقعة في الجهة الجنوبية الشرقية من الأناضول على الحدود السورية العراقية، مما دفع الإنجليز إلى التفكير في التخلص منه، واستقر رأيهم على تعيين الميجور سون حاكما سياسيا للسليمانية في مارس/آذار عام ١٩١٩ لتقليص نفوذه، فاختار البرزنجي العمل العسكري المباشر للرد على الخطوة البريطانية تلك، فقام بانقلاب عسكري في السليمانية مستعينا بفرقة عسكرية كردية تسمى "الشبانة" وساندته في ذلك القبائل الكردية في إيران وخاصة قبيلتي الهورامان ومريوان، وقد حقق الشيخ البرزنجي في البداية انتصارا عسكريا واستطاع أن يعتقل الضباط الإنجليز في بيوتهم وتولى هو وفرقة الشبانة السلطة المطلقة وقطع الخطوط السلكية في كركوك واستولى على قافلة تحمل أسلحة وأموالا كانت متجهة إلى "كفري" في السليمانية واستولى كذلك على حلبجة في ٢٦ مايو/أيار عام ١٩١٩.  

إزاء هذه الأعمال المسلحة في المناطق الكردية سيرت بريطانيا حملة عسكرية كبيرة في يونيو/تموز عام ١٩١٩ أحاطت بالبرزنجي وفرقته وحاصرته في "دربند بازيان" قرب السليمانية وتمكنت من أسره بعد إصابته بجراح أثناء الحصار، وأسرت معه العديد من أتباعه، وأرسلتهم جميعا إلى بغداد وسيطرت القوة البريطانية تماما على السليمانية وأصدرت حكمها بالإعدام على الشيخ البرزنجي ثم خففه بعد ذلك القائد البريطاني في بغداد إلى عشر سنوات مع النفي إلى الهند.

الوعد بحكم ذاتي كردي
فشلت إذن حركة الشيخ البرزنجي المسلحة وهدأت الأوضاع إلى حين، وبالرغم من القضاء على الحركة الكردية فإن الحاكم البريطاني العام في العراق عزم على منح الكرد وضعا خاصا يتيح لهم حكما ذاتيا ليتجنب عودة الاضطراب إلى المناطق الكردية مرة أخرى، وجاء هذا العزم البريطاني حتى قبل أن يستكمل البريطانيون تنظيم استفتاء عام بين أفراد الشعب العراقي على حكومة مركزية وطنية يرأسها الملك فيصل بن الحسين، واستشهد الحاكم العام البريطاني بنص المادة السادسة عشرة من لائحة الانتداب البريطاني على العراق التي جاء فيها "إنه لا يوجد في هذا الانتداب ما يمنع من تأسيس حكومة مستقلة إداريا في المقاطعات الكردية".

 لكن خطوات تنفيذ الحكم الذاتي المستقل إداريا على الأرض لم تتم بالسرعة التي كان يتوقعها الكرد، وحل موعد استفتاء الشعب العراقي عام 1921 على أمر تنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العرق فرفض الكرد في السليمانية الاشتراك في هذا الاستفتاء وأعلن الشيخ قادر شقيق الشيخ محمود المنفي في الهند مطالبته بحكم ذاتي مستقل ورفض فكرة الانضمام إلى العراق.

عودة البرزنجي

"
مرت عمليات البرزنجي المسلحة بفترات من الهزيمة والانتصار وشهدت تغيرات في التحالفات مع القوى الإقليمية المجارة التي كانت لها أهدافها الخاصة في العراق وكانت المصلحة هي الحاكمة في عقد أو فض مثل هذه التحالفات"


كانت تركيا تراقب الأوضاع بين الكرد والحكومة العراقية والقوات البريطانية عن كثب وأرادت أن تستغل الغضب الكردي للضغط على بريطانيا من أجل حل مشكلة الموصل المتنازع عليه بينها وبين بريطانيا فحشدت قواتها عاقدة العزم على الدخول في مواجهة مسلحة مع قوات الشيخ قادر، وقد نجح الأتراك بالفعل في احتلال بعض المدن الكردية مثل كوي سنجق وهددوا مدينة عقرة واندفعوا في اتجاه العمادية.

هنا فكرت بريطانيا في الاستعانة بعدوها اللدود البرزنجي ليقف أمام المد التركي الجديد، فأعادته من منفاه في الهند إلى السليمانية مرة أخرى عام ١٩٢٢ وعينته رئيسا للمجلس المحلي المنتخب ثم حاكما عاما، وبدأ الشيخ البرزنجي ينظم قواته ويوسع نفوذه في لواء السليمانية ويتجه صوب كركوك مهددا بضمها إلى حكومته، ولم يكن هدف بريطانيا وقف المد التركي فقط بل أرادت أيضا أن تضغط على حكومة الملك فيصل لكي توقع على المعاهدة "العراقية البريطانية الأولى" والتي وقعتها بالفعل في أكتوبر/تشرين الأول عام ١٩٢٢.

في تلك الأثناء بدأ الشيخ البرزنجي يستشعر أن بريطانيا في طريقها للاستغناء عنه بعد أن أدى ما عليه ولم تعد بحاجة إليه، فبادر بإعلان نفسه ملكا على كردستان في نوفمبر/تشرين الثاني عام ١٩٢٢ وبالفعل صدق حدسه وأرسلت بريطانيا إلى السليمانية حملة عسكرية لنزع سلطاته بعد بضعة شهور .

وعلى إثر خلو معاهدة لوزان في يوليو/تموز 1923 من أية إشارة لمنح الكرد حق تقرير المصير الواردة في معاهدة سيفر وفي محاولة من بريطانيا لطمأنة هواجس الكرد أوعزت إلى الحكومة العراقية لإصدار بيان تعترف فيه بحق الكرد القاطنين ضمن حدود العراق في تأسيس حكومة كردية غير أن الكرد رأوا أن بريطانيا غير جادة في طلبها هذا وغير جادة كذلك في ضغطها على الحكومة العراقية بل إن الحكومة العراقية كما رأى الكرد غير جادة في منح الكرد حكما ذاتيا في مناطقهم فلم يهتموا بالبيان الذي صدر في هذا الصدد، ورتبوا أنفسهم على العودة مرة أخرى إلى العمل المسلح.


حرب عصابات ضد حكومة بغداد
في ذلك الوقت سيرت الحكومة المركزية في بغداد حشدا عسكريا للقضاء على حكم البرزنجي، وتمكن الجيش العراقي بالفعل من احتلال السليمانية في ١٩ يوليو/تموز عام ١٩٢٤ بيد أن البرزنجي أجبره على التخلي عن المدينة فأعادت حكومة العراق الكرة مرة أخرى وبعثت إليه جيشا استطاع هذه المرة أن يقضي على نفوذ البرزنجي في السليمانية فلجأ إلى الجبال ليقوم بشن حرب عصابات منها، وعلى المستوى السياسي عينت الحكومة العراقية أحد الكرد الموالين لها متصرفا للواء السليمانية يتلقى أوامره من الحكومة المركزية في بغداد فاستتب له الأمن إلى حين. 
واستمر البرزنجي في عمله المسلح ضد الحكومة العراقية حتى أكتوبر/ تشرين الأول من عام ١٩٢٦ حينما عقد اتفاقا معها يقضي بأن يغادر هو وأسرته العراق إلى إيران وأن يمتنع عن التدخل في الشؤون السياسية مقابل رد أملاكه إليه.

 بقي البرزنجي أربعة أعوام في إيران إلى أن حل صيف عام ١٩٣٠ الذي نظمت فيه الحكومة العراقية انتخابات في المناطق الكردية رفضها الكرد فوقعت اشتباكات مسلحة بين المتظاهرين وقوات من الشرطة العراقية قتل على إثرها أكثر من 45 كرديا وجرح حوالي ٢٠٠ آخرين، فرأى البرزنجي أن الأجواء السياسية والأمنية باتت مهيئة لعودته من إيران وقيادته للعمل المسلح من جديد.

 وصل البرزنجي إلى السليمانية وأعلن عن مجموعة من المطالب ليعود الهدوء مرة أخرى إلى السليمانية. من هذه المطالب ترك الحكومة العراقية جميع مناطق كردستان ما بين خانقيين وزاخو، وتولي حكومة كردية تكون تابعة للانتداب البريطاني إدارة شؤون هذه المناطق ريثما تصدر عصبة الأمم قرارها الأخير في شأن الاستقلال العراقي.

 نهاية حركة البرزنجي
لم تعجب هذه المطالب الحكومة العراقية فوجهت حملة عسكرية للقضاء على الثورة الكردية المسلحة واستمر القتال بينها وبين قوات الشيخ البرزنجي حتى مارس ١٩٣١، في هذا العام استطاعت القوات العراقية الانتصار على قوات البرزنجي فانتهت ثورته وسلم نفسه للحكومة في ١٣ مايو/أيار ١٩٣١ وفرضت عليه الإقامة الجبرية في المناطق الجنوبية من العراق، وظل مقيما بها حتى نشوب ثورة رشيد عالي الكيلاني عام ١٩٤١.

في ذلك العام عاد الشيخ البرزنجي إلى السليمانية هاربا من قيود النفي أو بموافقة حكومة الكيلاني وهدد مرة أخرى برفع السلاح ما لم يسمح له بالعيش في مدينته إلى أن استقر فيها بالفعل حتى توفي عام ١٩٥٦ إثر مرض ألم به.