ثورة الشيخ سعيد بيران    table.MsoNormalTable {line-height:115%; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; } p {margin-right:0in; margin-left:0in; font-size:8.5pt; font-family:"Verdana","sans-serif"; color:#FFFFB9; } p.MsoNormal {margin-top:0in; margin-right:0in; margin-bottom:10.0pt; margin-left:0in; line-height:115%; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; color:windowtext; } .style4 { text-align: right; }           ثورة الشيخ سعيد بيران  

    هدمت الخلافة الإسلامية على يد اليهودي كمال أتاتورك، وبقي أغلب المسلمين يتفرّجون، ولم يَدُرْ بخلدهم أن هدم الخلافة يعني هدم الإسلام وغيابه كلّية عن الحياة. لقد كانت مشكلة المسلمين في ذلك الزمن أنّهم لم يميّزا بين القضايا المصيرية التي يجب أن يتخذ في مواجهتها إجراء الحياة أو الموت وبين القضايا الفرعية، لذلك انشغل الخطابي في المغرب عن إعادة الخلافة واتّخذ منها موقفاً سلبياً، ولذلك أيضاً رفض سعيد النورسي مساعدة الشيخ سعيد بيران في ثورته مع أنّه صاحب نفوذ وقوة بتعلّة الاقتتال بين الإخوة.

   ولكن الرجل الذي أدرك حقيقة القضية وبعدها المصيري هو الشيخ سعيد بيران رحمه الله، فقد اتّخذ إجراء الحياة أو الموت إزاءها، وطبّق الحكم الشرعي فنابذ الحاكم الذي أدخل الكفر على دار الإسلام، ولم ينشغل بالمؤتمرات والخطابات بل قاتل ودفع حياته وحياة رفاقه ثمناً للحكم الشرعي. فرحم الله الشيخ سعيد بيران ورفاقه.

    تمهيد

   في سنة ١٣٤٠هـ - ١٩٢١م انسحب اليونان بعد حرب ضروس من أزمير التركية ودخلها العثمانيون. لم يكن هذا الحدث حدثاً عادياً في تاريخ الدولة الإسلامية، إذ أظهر شخصية سيكون لها الدور الأكبر في هدم الخلافة الإسلامية، ألا وهي شخصية مصطفى كمال أتاتورك (١٨٨٠م – ١٩٣٨م). فقد ضخّمت الدعاية الغربية بعامة، والإنجليزية بخاصة، الانتصارات المزعومة لأتاتورك، فانخدع به ملايين المسلمين، وتعلّقت به أمالهم لإصلاح أمر الخلافة وإعادة مهابتها، حتى إن الشاعر أحمد شوقي وصفه في قصيدة من قصائده بأنّه "خالد الترك" فجعله شبيهاً "بخالد العرب"، وهو سيف الله المسلول خالد بن الوليد (رضي الله عنه)، فقال:

   الله أكبرُ كم في الفتحِ من عجبِِ يا خالدَ التُّركِ جَدِّدْ خـالدَ العربِِ

   عاد أتاتورك بعد هذا النصر إلى أنقرة حيث كرّمه "المجلس الوطني الكبير" وخلع عليه رتبة "غازي"، واشتهر عند الناس، وغمرته برقيات الإكبار والتشريف من شتى البلاد الإسلامية، من أفغانستان والهند ومصر وغير ذلك. ثمّ بعد هذا التكريم، انتخبه "المجلس الوطني الكبير" رئيساً شرعياً للحكومة.

   وفي سنة ١٩٢٢م أرسل أتاتورك عصمت إينونو باشا إلى إنجلترا لمفاوضة الإنجليز على الاستقلال. فقال السفير البريطاني (كرزون) لعصمت إينونو باشا عند عقد مؤتمر الصلح في نوفمبر ١٩٢٢م لما طالبه بمنح الاستقلال لتركيا: "إننا لا نستطيع أن ندعكم مستقلين؛ لأنكم ستكونون حينئذ نواة يتجمع حولها المسلمون مرة أخرى، فتعود المسألة الشرقية التي عانينا منها طويلا". فما كان من أتاتورك إلا أن تعهد للإنجليز بأن يزيل مخاوفهم، وأبلغهم بالموافقة على أي شروط يضعونها كضمانات تزيل تلك المخاوف، فاشترطوا عليه في اجتماع عقد في إبريل ١٩٢٣م أربعة شروط على لسان السفير البريطاني كرزون، عرفت بعد ذلك بشروط كرزون، وهي:

   1 -     أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام.

   2 -     أن تقوم بإلغاء الخلافة.

   3 -     أن تتعهد بالقضاء على كل حركة يمكن أن تقوم لإحياء الخلافة.

   4 -     أن تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية، وتضع لنفسها دستوراً علمانياً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من قواعد الإسلام.

   وبموافقة أتاتورك على تلك الشروط عقدت اتفاقية (لوزان) وتركت له إنجلترا كل الأراضي التي كانت قد سلبت من العثمانيين ليظهروه بمظهر البطل صاحب الإنجازات والاستقلال.

   نفذ أتاتورك ما أملته عليه إنجلترا من شروط، فاختار لتركيا الجديدة دستور سويسرا المدني، ونجح في إلغاء السلطنة وفصلها عن الخلافة، وبذلك لم يعد للخليفة أي سلطة أو نفوذ، ثمّ استغل أزمة وزارية ونصّب نفسه ضمن أجواء إرهابية قمعية أول رئيس للجمهورية التركية في (١٨ربيع أول ١٣٤٢هـ/٢٩ أكتوبر ١٩٢٣م) وأصبح الحاكم في البلاد.

   وفي (٢٨ رجب ١٣٤٢هـ/3 مارس ١٩٢٤م) ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة رسمياً، وطرد الخليفة وأسرته من البلاد، وألغى وزارتي الأوقاف والمحاكم الشرعية، وحوّل المدارس الدينية إلى مدنية، وأعلن قيام الجمهورية التركية وإنشاء دولة علمانية، وشنّ حملة واسعة للقضاء على مظاهر الإسلام في البلاد باعتقال العلماء وإغلاق المساجد وغير ذلك.

   الحكم الشرعي

   خدع كمال أتاتورك العالم الإسلامي كلّه، وأعلن هدم الخلافة الإسلامية وإنشاء جمهورية تركية علمانية، أي ألغى الحكم بالإسلام وأعلن الحكم بالكفر، فما الذي يجب على المسلمين فعله في مثل هذه الحالة؟

   الحكم الشرعي في هذه المسألة واضح صريح:

   عن أُمّ سَلَمَةَ أنّ رسول اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لاَ، مَا صَلّوْا». (مسلم) وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ قَالَ: «خِيَارُ أَئِمّتِكُمُ الّذِينَ تُحِبّونَهُمْ وَيُحِبّونَكُمْ، وَيُصَلّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمّتِكُمُ الّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسّيْفِ؟ فَقَالَ: «لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصّلاَةَ..». (مسلم) وعن عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قال: دَعَانَا رَسُولُ اللّهِ فَبَايَعْنَاهُ. فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا، أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا. وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ. قال: «إلاّ أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ». (رواه مسلم والبخاري)

   إنّ النظر الدقيق في الأحاديث المذكورة يكشف لنا عن مناطها أي عن الواقع الذي تتنزل عليه الأحاديث لمعالجته. فمناط الأحاديث هو الحاكم بدار الإسلام، أي أن هذه النصوص منصبّة على معالجة مشكلة بدار الإسلام التي يحكم فيها بالإسلام وأمانها بأمان المسلمين.

   فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لاَ، مَا صَلّوْا» أي في المستقبل من أمركم سيأتي من الأمراء من يرتكب الحرام، فلا تقاتلوهم ما داموا على الحكم بالإسلام وإن فسقوا وأدخلوا من البدع ما يعرف منها وينكر، ولكن قاتلوهم إذا تركوا الحكم بالإسلام؛ لأن قوله «مَا صَلّوْا» وفي رواية «مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصّلاَةَ» كناية عن الحكم بالإسلام.

   وفي حديث عبادة (صلى الله عليه وآله وسلم): «وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ» أي لا نخاصم أولي الأمر ونختلف معهم حول ولايتهم ووجوب طاعتهم، ولا ننابذهم أي نقاتلهم إلاّ إذا حكموا بكفر صراح لا شبهة فيه.

   بناء عليه، فإنّ الحاكم في دار الإسلام إذا حكم بالكفر الواضح الصريح يجب الخروج عليه ومقاتلته حتى يزال منكره أو يتنحىّ. وهذا واضح من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأله أصحابه: «أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسّيْفِ؟ فَقَالَ: «لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصّلاَةَ..». وروي عن ثوبان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم, فإذا لم يفعلوا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم, فإن لم تفعلوا فكونوا حينئذ زارعين أشقياء تأكلوا من كد أيديكم1».

   فالمسألة إذن واضحة صريحة، فقد كان على المسلمين وقتها أن يقاتلوا كمال أتاتورك ومن معه لأنّهم ألغوا الخلافة، وألغوا الحكم بالإسلام، وأدخلوا حكم الكفر في دار الإسلام.

   تخبّط العالم الإسلامي

   إنّه لمن المؤسف حقّا أن نقول: إن ردّة فعل العالم الإسلامي لم تكن في مستوى ذاك الحدث العظيم والخطب الجسيم. فبين أيدينا اليوم حقائق تاريخية تكشف لنا عن واقع مرير هو تخاذل أغلب المسلمين في القيام بواجبهم المناط بهم، ألا وهو منابذة من ألغى الخلافة وحكم بالكفر الصراح.

   وهذه بعض الأمور التي توضّح حالة العالم الإسلامي قبيل إلغاء الخلافة وبعدها بقليل، وهي تكشف عن مدى التخبّط الذي كان فيه العالم الإسلامي، ومدى عدم وعي المسلمين بحقيقة المشكلة2:

   -     سبق إلغاء السلطنة وفصلها عن الخلافة دراسة أعدّها جمع من الفقهاء الأتراك تحت عنوان "الخلافة وسلطة الأمة" تضمّنت القول بأن الخلافة مسألة سياسية ولا علاقة لها بالدين، ونصحت الدراسة بتأجيل البحث فيها أو تحويلها إلى مجرد سلطة روحية. وهو ما اعتمد عليه كمال أتاتورك في تبرير موقفه من الخلافة.

   -     أيّد زعيم الحركة السنوسية (الشيخ أحمد الشريف السنوسي) كمال أتاتورك، وأقرّ الفصل بين السلطنة والخلافة بحجة أن الفصل في مصلحة الإسلام. وفي 28/9/1923م نشر في جريدة الأهرام المصرية بياناً ذهب فيه إلى أن نزع السلطة المدنية من يد الخليفة سيعزز نفوذه الإسلامي؛ لأنه سيصبح زعيماً عاماً وروحياً للأمة كلها!

   -     كتب الشاعر أحمد شوقي، أشعر الشعراء في تلك الفترة، قصيدة في تبجيل أتاتورك سماها (تكليل أنقرة وعزل الآستانة)، مدح فيها أتاتورك وأقرّ عزل السلطنة عن الخلافة.

   -     اغتر شيخ الإسلام ومفتي الدولة العثمانية مصطفى صبري بدعوى الإصلاح التي نادى بها الكماليون، فأقرّ عزل الخليفة عبد الحميد في مجلس "المبعوثان"، ثمّ لما تبيّن حقيقة الأمر بعد فوات الأوان قال: «أيدت خلع السلطان عبد الحميد، وبعد ستة أشهر تبين لي أن ثقله السياسي كان يساوي ثقل أعضاء مجلس المبعوثان جميعاً ويزيد».

   -     عارض عبد الكريم الخطابي (١٨٨١ - ١٩٦٢م) قائد الجهاد ضد الإسبان والفرنسيين في المغرب الدعوة لإعادة الخلافة بعد إلغائها، وكانت تعليمات الخطابي لمندوبه في مؤتمر إعادة الخلافة ألا يؤيد أي مرشح لها.

   -     كتب عبد الحميد بن باديس (١٨٨٩م-١٩٤٠م) زعيم الحركة الإسلامية في الجزائر مقالاً بعنوان: «الفاجعة الكبرى أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ومروقهم من الدين» نشرته جريدة النجاح عدد ١٥٢ بتاريخ ٢٨ مارس ١٩٢٤م، بيّن فيه حسرته على ما آلت إليه الأوضاع، وأن الأمل منصب على مؤتمر الخلافة في مصر. إلا أنّ موقف الشيخ باديس من الخلافة وأتاتورك يتّضح أكثر فأكثر في مقال له نشر في غرة رمضان ١٣٥٧ هـ، نوفمبر ١٩٣٨م، تحت عنوان: "مصطفى كمال رحمه الله "، ومما جاء فيه: «في السابع عشر من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث، عبقري من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقاً جديداً، ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل، وبطل سقاريا في الأناضول، وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو... لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة، ولكنه لم يثر على الإسلام وإنما على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين، فألغى الخلافة الزائفة، وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم، فرفض مجلة الأحكام واقتلع شجرة زقوم الطرقية من جذورها، وقال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم، وعلي نفسي، لا خير لي في الاتصال بكم مادمتم على ما أنتم عليه... نعم إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية وليس مسؤولاً في ذلك وحده، وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا وكيفما شاءوا، ولكنه أرجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض، وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع، وهو وحده كان مبعثه ومصدره، ثم إخوانه المخلصون، فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية إلى (كود) نابليون فماذا أعطوا أمتهم ؟ و ماذا قال علماؤهم؟...»3.

   -     وفي سنة ١٩٢٦م أصدر علي عبد الرازق في مصر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" يبرّر فيه العلمانية ويقول بفصل الدين عن الدولة، وإن الإسلام لا يشمل نظم الحكم.

   -     وفي مصر ظهرت دعوة من خلال الأزهر لعقد مؤتمر إسلامي عام لمناقشة مسألة الخلافة الإسلامية، وكان وراء هذه الدعوة الملك فؤاد الذي أبدى رغبته في أن يصبح خليفة. وعقد المؤتمر في التاسع عشر من شعبان سنة ١٣٤٣هـ الموافق ٢٥/٣/١٩٢٤م أي بعد أيام من إعلان هدم الخلافة المشؤوم. وكانت أهم مقرّراته هي: أولاً: "بيَّن أن ذلك الفعل من المجلس الوطني التركي (بدعة) ما كان المسلمون يعرفونها من قبل، لكن التقرير نبه على أن خلافة عبد المجيد على هذا الشكل ليست شرعية، وأن البيعة له بشرط أن يكون معزولاً عن السياسة لم تكن صحيحة أصلاً، وحتى لو كانت صحيحة فإن عبد المجيد لم يكن يملك النفوذ والقوة المشترطة فيمن يتولى الخلافة، لهذا فإنه ليست له بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من تنصيبه شرعاً، واعتبر التقرير أنه (ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده، ولا يملكون هم تمكينه منها)". ثانياً: خلص المؤتمر الذي شارك فيه علماء الأمة إلى "أنّ العالم الإسلامي أصبح في أزمة بسبب الضجة التي أحدثها الكماليون في تركيا بإلغائهم منصب الخلافة، وجعلوا هذا الاضطراب سبباً في أن (لا يتمكن المسلمون معه من البت في تكوين رأي ناضج في مسألة الخلافة، ولا في من يصح أن يكون خليفة لهم). ومن أجل هذا دعا مؤتمر الأزهر إلى عقد مؤتمر أوسع: (لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يُدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية، وتكون بمدينة القاهرة، تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية، على أن يعقد في شهر شعبان من ١٣٤٣هـ ـ مارس ١٩٢٥م) أي بعد مرور عام كامل من المؤتمر الأول!".

   "ولم ينسَ المؤتمرون قبل أن يطووا أوراقهم أن يوجهوا الشكر للأمم غير الإسلامية (الكافرة) التي "راعت" ظروف المسلمين في هذا الظرف العصيب، فلم تتدخل في شؤونهم: (نعلن شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي، ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها، ولا يهتم بها أحد من غير أهلها)".

   وعندما حان وقت انعقاد المؤتمر الثاني (١٩٢٥م) المتمخَّض عن المؤتمر الأوّل (١٩٢٤م) طفت الخلافات على السطح وادّعى كلّ من الحضور لنفسه الخلافة، فطالب بها الملك فؤاد، وطالب بها الشريف حسين، وطالب بها الملك عبد العزيز بن سعود، بل دبّ الخلاف حول شكل الخلافة ومضمونها وهل تحتاج إلى تعديل أم لا. وتمخّض الجبل فولد فأراً، وتمّ تأجيل المؤتمر إلى السنة القادمة (١٩٢٦م) الذي فشل بدوره في معالجة المشكلة.

       رفض بديع الزمان سعيد النورسي (١٨٧٦م-١٩٦٠م) تقديم المساعدة للشيخ سعيد بيران في حربه لإعادة الخلافة سنة ١٩٢٥م. وعندما جاءه حسين باشا مندوب الشيخ سعيد بيران يدعوه إلى المشاركة في الثورة ضد سياسة مصطفى كمال أتاتورك العلمانية ولإعادة الخلافة وتطبيق الشريعة قال له النورسي في حواره: ومن ستحارب؟

   قال حسين باشا: سنحارب مصطفى كمال.

   قال سعيد النورسي: ومن هم جنود مصطفى كمال؟

   قال حسين باشا: إنهم جنود!

   قال سعيد النورسي: إن جنوده أبناء هذا الوطن، هم أقرباؤك وأقربائي، فمن نقتل؟ ومن سيقتلون؟ فكر .. وافهم. إنك تريد أن يقتل الأخ أخاه4.

   ثم أرسل النورسي رسالة إلي الشيخ بيران جاء فيها: «إن ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة، فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام، وضحت في سبيل دينها مئات الألوف بل الملايين من الشهداء، فضلاً عن تربيتها ملايين الأولياء، لذا لا يُستل السيف على أحفاد الأمة البطلة المضحية للإسلام، الأمة التركية، وأنا أيضًا لا أستلُه عليهم».

   هذه بعض الأمور التي تثبت مدى تخبّط الأمة في تلك الفترة، وفشلها في معالجة الأزمة بل المصيبة العظمى والطامة الكبرى التي حلّت بها.

   مواقف مشرفة

   رغم حالة التّخبط التي شهدتها الأمة الإسلامية قبيل هدم الخلافة وبعدها، فقد كان فيها من الرجال من انبرى للدفاع عن الخلافة والانتصار لها بالقلم والسيف.

   فمن الرجال الذين ساندوا الخلافة الشيخ محمد الخضر حسين (١٨٧٦م-١٩٥٨م) حيث وقف قلمه ولسانه إلى جانب الدولة العثمانية، وظلّ وفيا لها إلى أخر لحظة. ولما أصدر علي عبد الرازق (١٩٢٦م) كتاب "الإسلام وأصول الحكم" نهض الشيخ لتفنيد دعاوى هذا الكتاب فأصدر كتابه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم".

   ومن الرجال أيضا الشيخ مصطفى صبري (١٨٦٩ ـ ١٩٥٤م) آخر شيوخ الإسلام المفتين في الدولة العثمانية الذي أصدر كتاباً بعنوان: (الرد على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) فكان صوت صدق وحقّ في وجه أعداء الخلافة، كشف أتاتورك بعد أن خدعه وبيّن خبثه، كما كشف المؤامرات التي كانت تحاك ضدّ الدولة.

   إلا أنّ الرجل الذي يستحقّ كلّ التبجيل والتكريم، هو الرجل الذي حمل سيفه في وجه أتاتورك ومن لفّ لفّه، وقاتل من أجل إعادة الخلافة، ألا وهو الشيخ سعيد بيران رحمه الله تعالى.

   الشيخ سعيد بيران

   ولد الشيخ سعيد بن الشيخ محمود بن الشيخ علي في قضاء (بالو) بولاية "آلازغ" الكردية سنة1865م، و كان جده الشيخ علي قد استقر في (بالو) ونسب إليها. تلقى الشيخ سعيد تعليمه الأولي على يد والده وبعض مريديه، حيث تعلم أصول القراءة والكتابة، ثم درس الفقه والشريعة الإسلامية والتاريخ، وبعد أن أنهى دراسته منح شهادات الإجازة والتدريس لطلاب العلم. وبعد وفاة والده انتقلت إليه الزعامة، وأصبح مرشداً للطريقة النقشبندية في (بالو)، وقد بلغ عدد مريديه وأتباعه أكثر من عشرة ألاف، كان من بينهم العديد من الترك، أما البقية فكانوا من الكرد.

   لم يكن الشيخ شيخاً تقليدياً كما عهد عن المشايخ في ذلك الزمن، بل كان عالماً مجدداً بليغاً غير مؤمن بالخرافات التي كان الناس يرددونها عن المشايخ وقدراتهم وكراماتهم، فلم يقبل تقبيل يديه أو الانحناء له وتواضع للناس. وقد كان مجلسه العلمي يعج بالمثقفين والعلماء والرجال الشجعان، وبذل جهوداً جبارة في سبيل نشر العلم والمعرفة بين الناس. وقد مارس الشيخ سعيد النشاط السياسي منذ تأسيس الجمعيات والمنظمات الكردية بين أعوام 1908-1923م، وكانت له صلات وثيقة مع العائلات الكبيرة كعائلة بدرخان بك وعائلة الشيخ عبيد الله النهري، بالإضافة إلى الزعماء السياسيين المعاصرين له.

   وقد اشتهر الشيخ باسم سعيد بيران نسبة إلى (بيران)، وهي قرية صغيرة تقع قريباً من (بالو) وفيها حدثت أوّل مواجهة بينه وبين جنود أتاتورك.

   أحداث ثورة الشيخ سعيد

   فيما يلي نذكر أهمّ الأحداث التي شهدتها ثورة الشيخ سعيد بيران5:

   نوفمبر ١٩٢٤م: سافر علي رضا، نجل الشيخ سعيد بيران، إلى حلب، عبر ديار بكر، للتنسيق، بصورة نهائية، مع القادة الأكراد الآخرين عن تنظيم انتفاضة، وانعقد هناك مؤتمر، شارك فيه عدد كبير من الشخصيات الكردية، في تركيا والعراق وسورية.

   ديسمبر ١٩٢٤: ألقت الحكومة التركية القبض على خالد جبرانلي، كما تم اعتقال حاجي موسى ويوسف ضيا، من جمعية آزادي (الاستقلال)، فرد الأكراد على ذلك، باختيار الشيخ سعيد بيران رئيساً لجمعية (استقلال كردستان)، كما تم تحديد موعد بدء انتفاضة للأكراد، تحت قيادة الشيخ سعيد، يوم العيد القومي للأكراد "النيروز" الموافق 21 مارس ١٩٢٥.

  ٨     فبراير ١٩٢٥: بدأ الشيخ سعيد بالتحرك الميداني، فقام بزيارة للولايات الشرقية، وأثناء جولته التفقدية في بيران وزيارته لأخيه عبد الرحيم، وصلت قوة عسكرية تركية بقيادة الملازم أول حسني أفندي؛ للقبض على عدد من الأكراد، إلا أن أكراد بيران رفضوا تسليمهم، فوقع صدام مسلح، كان نتيجته قتل عدد من الجنود الأتراك، وأسر بعض الضباط، ومنهم حسني أفندي.

   ١١     فبراير ١٩٢٥: قام طاهر بيران، الشقيق الثاني للشيخ سعيد، بالاستيلاء على البريد، من ليجه إلى قرية سيردي، ووصل على رأس وحدة تضم 200 مقاتل إلى كينجو، وسلم الشيخ سعيد الوثائق والأموال، التي استولى عليها. وأصبحت هذه الأحداث هي البداية الحقيقية لحركة الشيخ سعيد بيران وبهذا بدأت الانتفاضة، قبل الموعد، الذي كان محدداً لها بحوالي ٤١1 يوماً.

   ١٤     فبراير ١٩٢٥: سيطر الثوار، على محافظة كينجو سيطرة تامة، ووقع المحافظ والموظفون الأتراك في الأسر، كما تولى فقه حسن، رئيس عشيرة مودان، محافظاً جديداً في كينجو، وتم إصدار قانون استثنائي، يحمل توقيع الشيخ سعيد، يقضي بأن تكون كينجو عاصمة مؤقتة لكردستان، وانتقلت السلطة الدينية والمدنية إلى الشيخ سعيد، وأرسلت جميع الضرائب والأسرى إلى كينجو، كما أصدر الثوار نداء أعلنوا فيه إلغاء ضريبة العُشر الصعبة، ودعوا السكان، بدلاً من ذلك، إلى تقديم المؤن للثوار، مما لاقى استحساناً واسع النطاق، بين صفوف الجماهير الواسعة.

   ٢٢     فبراير ١٩٢٥: عقد مجلس الوزراء التركي جلسة طارئة، في وقت متأخر من ليلة 22 فبراير وحتى صباح اليوم التالي، وشارك في الاجتماع رئيس الأركان فوزي باشا، وأفضى الاجتماع إلى إعلان حالة الطوارئ، في منطقة الانتفاضة، ووضعها تحت الأحكام العرفية، لمدة شهر كامل، حتى يستطيع الجيش التركي مقاومة انتصارات الانتفاضة.

  ٢٥     فبراير ١٩٢٥: قام مجلس العموم في البرلمان التركي، بتعديل المادة (١) من قانون العقوبات عن خيانة الوطن، والذي سن في ١٥ أبريل ١٩٢٣، (القانون ٥٥٦) إلى النص التالي: "منع تكوين المنظمات السياسية على أُسس دينية، وكذلك استخدام الدين في سبيل تحقيق الأهداف السياسية، واعتبار الأشخاص القائمين بمثل هذه الأعمال أو المنتسبين إلى مثل هذه التنظيمات خونة".

   ٢٨     فبراير ١٩٢٥: تقدمت الانتفاضة بشكل سريع على الأرض، والتف حولها آلاف من كل جانب، فاستولت على ليجة وخاني، وانضم إليها قوات صالح بك، وفصائل حاجي حسن وعمر فارو، وعشائر مستيان وبوتاني في جنوبي (جابكجور)، وكذلك انضم للانتفاضة فصيلة كبيرة تابعة للشيخ شمس الدين في ضواحي ديار بكر، وبلغ عدد الفصائل الكردية زهاء 20 ألف مقاتل، مما أربك الحكومة التركية، وأثار الذعر بين قياداتها.

   ٢     مارس ١٩٢٥: استقالت حكومة فتحي بك في أنقرة، وفي اليوم التالي مباشرة ترأس عصمت باشا الحكومة الجديدة، وشدد في برنامجه، الذي ألقاه بمجلس الأمة التركي الكبير، على ضرورة القضاء على مثيري الاحتجاجات، واستتباب الأمن في البلاد، وبمقتضى هذا البرنامج، أعدت الحكومة تدابير عسكرية، لقمع انتفاضة الشيخ سعيد.

   ٤     مارس ١٩٢٥: سن مجلس الأمة القانون الرقم (٥٧٨)، الخاص بالحفاظ على النظام، والذي يمنح السلطات صلاحيات واسعة لمحاربة الحركات الشعبية، وأي نشاط معارض، ويسمح باستخدام جميع التدابير المقرونة بحالة الطوارئ، كما اتخذ مجلس الأمة قراراً بتشكيل محكمتين للاستقلال: واحدة منهما لعموم تركيا، مقرها الدائم أنقرة، وتتمتع بصلاحيات محدودة (كان لا بدّ من مصادقة مجلس الأمة التركي في حالة إصدار أحكام الإعدام)، والثانية في الولايات الشرقية، وتتمتع بصلاحيات مطلقة.

   ١١     مارس ١٩٢٥: أمر الشيخ سعيد بشن هجوم على ديار بكر من جميع الجهات، لكن القوات التركية المتفوقة عدداً وعتاداً، سيطرت على الموقف، فأصدر الشيخ سعيد أوامره بالانسحاب والتراجع نحو (درخاني).

   أواخر مارس - أول أبريل ١٩٢٥: استطاعت القوات الحكومية شن هجوم على منطقة الانتفاضة، من الشمال والجنوب والجنوب الشرقي، في آن واحد، وقاد القوات التركية الجنرال كمال الدين سامي باشا، ولم يجد الثوار مفراً سوى التراجع، في أول أبريل، باتجاه بالو. وفي نفس الوقت كانت القوات التركية قد أصدرت بياناً، وعدت فيه بمنح مكافأة، قدرها ألف ليرة ذهبية، لمن يلقي القبض على الشيخ سعيد، و٧٠٠ ليرة ذهبية، لمن يأتي بجثته حتى بعد وفاته. وكان ذلك بداية تحول في المعارك لمصلحة القوات التركية وبداية انهيار الانتفاضة.

  ٦     أبريل ١٩٢٥: اضطر الشيخ سعيد، يرافقه ٣٠٠ فارس، إلى التراجع نحو سالهان.

   أواسط أبريل ١٩٢٥: تمت محاصرة القوات الرئيسية للانتفاضة، وتحطيمها في وادي كينجو، وتم إلقاء القبض على قادتها، وعلى رأسهم الشيخ سعيد، والشيخ علي، والشيخ غالب، ورشيد آغا، ومحمد آغا، وتيمور آغا، وبذلك تم القضاء عملياً على انتفاضة الشيخ سعيد.

   13     أبريل ١٩٢٥: تم اعتقال سيد عبد القادر، ونجله سيد محمد، وكور عبد الله سعدي، وزعماء عشائر هوشينان.

  ١٤     مايو ١٩٢٥: بدأت محاكمة عدد كبير من الثوار، الذين شاركوا في انتفاضة الشيخ سعيد، وقد حكم على عدد منهم بالإعدام في ٢٧ مايو، وأودع الآخرون بالسجون.

   29     مايو ١٩٢٥: بدأت محاكمة الشيخ سعيد، التي استمرت شهراً كاملاً، وكان معه في قفص الاتهام، الشيخ عبد الله، والشيخ إسماعيل، والشيخ عبد اللطيف، والرائد قاسم إسماعيل، وحاجي خالد عبد الحميد، والشركسي رشيد، وعدد آخر من قادة الانتفاضة.

   ٢٩     يونيه ١٩٢٥: صدر الحكم بالإعدام شنقاً على الشيخ سعيد ورفاقه.

   30     يونيه ١٩٢٥: نفّذ حكم الإعدام على الشيخ سعيد ورفاقه في ساحة المسجد الكبير بمدينة ديار بكر. وأمام حبل المشنقة قال الشيخ: "إن الحياة الطبيعية تقترب من نهايتها ولم آسف قط عندما أضحي بنفسي في سبيل الله، إننا مسرورون لأن أحفادنا سوف لن يخجلوا منا أمام الأعداء".

   أسباب الثورة الحقيقية

   تكاد تجمع مصادر التاريخ على واقعة هي: «عندما تم اعتقال بعض قادة جمعية آزادي الوطنية الكردية في خريف عام ١٩٢٤م، تم اختيار الشيخ سعيد رئيساً للجمعية التي عقدت مؤتمراً في تشرين الثاني ١٩٢٤م في حلب حضره علي رضا ابن الشيخ سعيد ممثلاً عن والده إلى جانب معظم القادة الكرد في تركيا وسوريا، وقرر المشاركون القيام بانتفاضة شاملة لنيل الحقوق القومية الكردية ومقاومة سياسة أتاتورك العنصرية، على أن تندلع في يوم ٢١ آذار١٩٢٥م (العيد القومي الكردي- نوروز)».

   هذه الواقعة أوجدت بعض اللبس حول أسباب ثورة الشيخ سعيد بيران، إذ ظن بعض الناس أن الشيخ قاد الثورة من أجل حقوق الأكراد القومية، وهو ما ادّعته الحكومة الكمالية وأعلنته أثناء محاربتها للشيخ، وهو ما تدّعيه بعض الحركات الكردية القومية إلى يومنا هذا إذ نسبوها إلى حركة (آزادي) و(جمعية تعالي وترقي كردستان) وهو أيضاً ما ركّز عليه بعض المستشرقين في كتاباتهم التاريخية عن الثورة6.

   فالشائع عنها إذن بأنها ثورة قومية للحركة الكردية، إلا أن الوثائق التي ظهرت في السنين الأخيرة أثبتت إسلاميتها وقيامها لأجل إعادة الخلافة وتطبيق الشريعة، علماً أن الحكومة التركية منذ قيام الثورة إلى سنة (١٩٧٧م) كانت تعتبر وثائق حركة الشيخ سعيد بيران وثائق سرية، ولكن ظهرت في الثمانينات والتسعينات دراسات ووثائق جديدة تبيّن حقيقة الثورة وأهدافها٧.

   وقد كشفت الوثائق أن لا علاقة تنظيمية بين الشيخ سعيد بيران وحركة آزادي الكردية، ذلك أن قائد حركة آزادي (خالد بيك جبرانلي) كان أحد قادة الألوية الحميدية، وكان من دعاة الجامعة الإسلامية ومن أقرب المقربين إلى السلطان عبد الحميد، وكان عديلاً للشيخ سعيد بيران، وعندما طلب من الشيخ سعيد المثول أمام المحكمة أثناء محاكمة خالد جبرانلي ورفاقه ظهر أن النظام الكمالي يريد اتهامه ومحاكمته وأن مسألة اعتقاله أصبحت وشيكة، لذلك قرر المواجهة وإعلان الثورة بعد أن عبأ لها شيوخ القبائل الكردية وأرسل برسائله ورسله إلى الشخصيات المسلمة الكردية المعروفة وطاف بينهم لفضّ النزاعات وتوحيد الصفوف.

   وقد اضطر الشيخ للمواجهة المبكرة قبل الإعداد المطلوب، وانتخب رئيساً (لآزادي) بعد اعتقال قادتها لما توسم فيه الناس من حكمة ودراية وأمانة.

   وهكذا خاض الثوار بقيادة الشيخ سعيد بيران الثورة ضد الحكم الكمالي، وكان خطاب الثورة خطاباً إسلامياً صرفاً، وأعلن الشيخ «حركته باسم الله واتخذ له راية خضراء هي راية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما حمل شعاراً: لتحيا الخلافة ولتسقط الجمهورية، وكان يتلقّب بخادم المجاهدين8».

   وقد نشرت وثيقة لجلسة سرية لمجلس أركان الحرب التركي تبيّن فيها من خلال الوثائق وشهادات الشهود بأن ثورة الشيخ سعيد كانت ثورة إسلامية بحتة تهدف إلى إعادة الخلافة و تطبيق الشريعة وعُمّم ذلك القرار المرقم (١٨٤٥) على جميع الإدارات الحكومية المعنية.

   ولكن حاولت الحكومة الكمالية تشويه الحركة ووصمها بأنها قومية، فعمدت إلى محاكمة قادة الحركة القومية مع الشيخ سعيد ورفاقه، وذلك لإثارة النعرة الطورانية عند القوميين الأتراك، ولعزل الثورة عن المسلمين في تركيا وبقية العالم. إضافة إلى هذا فقد اتهمت الحكومة الكمالية الثورة بالعلاقة بالجهات الأجنبية مع أن الثابت أن الإنجليز والفرنسيين ساعدوا الحكومة الكمالية على قمع الثورة؛ فقد استعملت الحكومة الكمالية المدفعيات الإنجليزية في قصف مواقع الثوار، كما طلبت السلطات التركية في بداية شهر آذار١٩٢٥م من الحكومة الفرنسية السماح لها بمرور أربعة قطارات يومياً على الخط الحديدي بغداد من أجل نقل من٢٠٠٠٠ حتى   ٢٥٠٠٠ رجل مع عتادهم إلى ساحة العمليات وفي نهاية أيار ١٩٢٥م طلبت الحكومة التركية مرة أخرى من الحكومة الفرنسية السماح لها بمرور تعزيزات عبر سورية على الخط الحديدي بغداد، ورحبت بذلك فرنسا.

   وممّا يؤكد أن الثورة كانت إسلامية من أجل الخلافة أن مجلس العموم في البرلمان التركي، قام في ٢٥ فبراير ١٩٢٥ بتعديل المادة الأولى (١) من قانون العقوبات عن خيانة الوطن الذي سن في ١٥ أبريل ١٩٢٣، (القانون ٥٥٦) إلى النص التالي: "منع تكوين المنظمات السياسية على أُسس دينية، وكذلك استخدام الدين في سبيل تحقيق الأهداف السياسية، واعتبار الأشخاص القائمين بمثل هذه الأعمال أو المنتسبين إلى مثل هذه التنظيمات خونة". فهذا يدلّ على أنّ الحكومة الكمالية نفسها تعترف بإسلامية الثورة لذلك عدّلت القانون بما يتناسب والظرف.

   ومما يقطع أيضا بأن الثورة كانت ثورة من أجل إعادة الخلافة وتطبيق الشريعة ما جاء في وثائق محاكمة الشيخ سعيد. فقد اتّهمه القاضي بأنّ دوافع تحركه قومية، فقال: "يشهد اللَّه أن الثورة لم تكن من صنع السياسيين الكرد - يعني القوميين- ولا من تدخل الأجانب".

   وعندما سئل: هل تريد أن تصبح خليفة؟

   أجاب: إن وجود الخليفة ضمانة أساسية لتطبيق قواعد الدين وإن المسألة مطلوبة شرعاً.

   وسئل: هل كان إعلانكم للعصيان يعني أنكم وصلتم إلى قناعة تامة بأن الشريعة غير مطبقة في البلد؟

   أجاب: إن الكتاب يؤكد على الخروج على الحاكم في الظروف التي أشرنا إليها أعلاه، وتطبيق الشريعة يعني منع القتل والزنا والمسكرات ... الخ وبحمد اللَّه كلنا مسلمون ولا يجب التمييز بين الكرد والترك وحسب اعتقادنا أن هذه الأمور حالياً متروكة، إننا انطلقنا من هذه القناعة وعلى أساس القرآن الكري